ناقد فني
مطلع هذا الشهر، أثارت وارنر براذرز جدلًا واسعًا بين جمهور السينما والعاملين بها، فور إعلانها عرض أحدث إنتاجاتها السينمائية 2021 بالتزامن بين قاعات السينما والمنصة الإلكترونية HBO MAX.
17 فيلمًا من أضخم إنتاجات العام المرتقبة تستقبلها المنصة المملوكة للشركة الأم (Warner Media (AT&T. من بين تلك الأفلام Dune ،The Matrix 4 ،Kong Vs. Godzilla، وقبلهم جميعًا الجزء الثاني لفيلم Wonder Woman المقرر عرضه 25 ديسمبر 2020 بنفس نظام العروض الهجيني.
المفاجأة في قرار وارنر براذرز كان التعامل معه باعتباره مفاجأة من الأصل، وكأنه لم يحتل توقعاتنا منذ أبريل 2020 باعتباره حتمية في ظل مصيبة كورونا التي يعيشها العالم، وتؤثر بالتبعية على اقتصاد السينما.
هناك انقسام واستقطاب، رأيت القرار كخطوة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لكن آخرين رأوه قرارًا كارثيًا على مستقبل السينما بشكلها التقليدي.
Contagion | السينما تنبأت بمصير البشر مع كورونا قبل عقد كامل | شريف ثابت
العديد من الأصوات المعارضة لقرار وارنر براذرز ظهرت من داخل المطبخ السينمائي، أغربها تصريحات المخرج كريستوفر نولان صاحب التعاونات العديدة مع الشركة لإنتاج أفلامه وآخرها Tenet الذي عُرض في صيف كورونا بالطريقة التي أرادها مخرجه وصمم عليها، وبميزانية ضخمة في العادة لا تتيحها الستوديوهات الكبرى لفيلم ذي أسلوب حكي محيّر، وطموح فني يصل لدرجة الانغماس، دون حتى تدخل من الشركة أو إبداء ملحوظات، وهي نقطة لم يقدرها أو يستوعبها كريستوفر نولان وهو يتهم شركته بأنها قتلت السينما بقرارها.
بنظرة على بعض حقائق وأرقام اقتصاد السينما الأمريكية في 2020 يمكننا أن نفهم سبب قرار وارنر براذرز. ولتكن البداية مع Tenet وهو نموذج مثالي لدراسة سوق السينما في عصر كورونا، ودليل أن شركة وارنر براذرز هي الوحيدة بين الستوديوهات الكبرى التي خاضت المغامرة بالفعل ولم تهرب مثل البقية.
إنتاج Tenet تكلف 200 مليون دولار دون مصاريف الدعاية، وكان بحاجة لتجاوز الـ 400 مليون دولار في شباك التذاكر، باعتبار أن الإيراد الإجمالي يوزع بين شركة الإنتاج ودار العرض بنسبة 50/50.
مؤشرات السوق كانت ترجح أن يصل Tenet لـ 750 مليون دولار في الظروف العادية، لكن في زمن كورونا أقصى ما وصله الفيلم محليًا كان 57 مليون دولار ويزداد الإجمالي بفضل الأسواق الدولية ليصل 360 مليون دولار.
دور العرض استفادت بفضل شجاعة وارنر براذرز لكن هناك هامش خسارة للشركة. صحيح ليست خسارة كبرى بالنسبة لشركة عملاقة، لكن لنتخيل لو أصدرت الشركة عددًا أكبر من الأفلام في نفس الظروف وتجمعت هوامش الخسارة بنفس النسب.
نولان ضد مولان | تفاصيل حرب ستحسم مستقبل السينما | حاتم منصور
بنظرة أعم على اقتصاد السينما الأمريكي في 2020، نسبة الانكماش وصلت لـ 75% مقارنة بعام 2019، ما حققته السينما الأمريكية في 2020 هو ربع ما تم تحقيقه في 2019.
والمخيف أن هذا الربع تم تحقيق معظمه في الشهور الأولى من 2020 وحتى منتصف مارس، لدرجة تجعل الأفلام العشرة المتصدرة لإيرادات السوق الأمريكي كلها صدرت في الفترة بين ديسمبر 2019 ومارس 2020. والمفاجأة أن Tenet الذي صدر في موسم الصيف بلا منافسة لم يلحق بقائمة العشرة الأوائل محليًا.
أما عالميًا، فهناك حقيقة صادمة وهي أن السوق الأمريكي للمرة الأولى تاريخيًا لم يتربع على عرش الدخل السينمائي، حيث تفوق إجمالي دخل السوق الصيني في 2020، ليس ذلك فحسب، بل إنها المرة الأولى التي يتصدر الإيرادات العالمية فيلم غير أمريكي، فعلتها الصين هذا العام بفيلمين The Eight Hundred، وMy People My Land، بالمركزي الأول والثاني، وتتكون قائمة العشرة الأوائل دوليًا من خمسة أفلام لجنوب شرق آسيا، أربعة من الصين وواحد من اليابان، وهو أمر غير مسبوق ويشرح لنا حجم مأساة السوق الأمريكي في 2020.
الجميع انتبهوا لقرار وارنر براذرز الأخير ولم ينتبهوا لاستطلاع رأي منشور بالتزامن مع القرار، أجرته مؤسسة ديلويتي الأمريكية للإحصاء حول استعداد المواطن الأمريكي للذهاب لدور السينما في الفترة المقبلة، 72% قالوا إنهم لن يذهبوا لدار سينما خلال الشهر، وأكثر من النصف قالوا إنهم لن يذهبوا لدار السينما في الأشهر الستة المقبلة، حتى مع الإعلانات المتواصلة عن ظهور لقاحات، ما يعني أن ركود السوق السينمائي الأمريكي ممتد حتى مطلع صيف 2021.
باتمان 2021 وخمس أفلام وألغاز سينمائية مرتقبة من “دي سي كومكس” | حاتم منصور
يمكننا تقييم البدائل من خلال ما قدمته الشركات المنافسة بالفعل، فهناك يونيفرسال التي اتبعت تجربة عرض أفلامها بالسينمات أسبوعين فقط ثم طرحها للمشاهدة المنزلية، وهي إستراتيجية لا تختلف كثيرًا عن استراتيجية وارنر القادمة.
وهناك تجربة لـ MGM وUnited Artists مع فيلمهم الأبرز 2020 No Time To Die، حيث اتبعوا سياسة التأجيلات المتواصلة، من الربيع للصيف ومن الصيف للخريف، ومن العام للعام المقبل، وهكذا حتى تتغير الظروف.
وهي سياسة تحرق الأفلام وتساهم في خفوت وهجها الدعائي بأن تحولها من وجبة ساخنة طازجة، لوجبة تم تجميدها لمدة طويلة في الثلاجات. كما أن الانتظار لا يخدم دور العرض. وبالتالي فهي سياسة تضر بالأفلام وتضر بالسينمات.
وهناك تجربة ديزني، التي اتبعت سياستين، أحيانًا بالعرض المباشر على المنصات وتجنب دور السينما من الأصل، كما حدث مع أفلام Onward و Artemis Fowl ومؤخرًا Godmothered، وأحيانًا بالعرض الهجيني بين السينما والمنصة Disney+ كما حدث مع Mulan.
ديزني تتبع تلك السياسة منذ أبريل الماضي، ولم تنل ربع الانتقادات التي نالتها وارنر، رغم أن ديزني كانت أولى بالعتاب لو سرنا بمنطق التكافل الاقتصادي، فهي تبدي منصتها على السينمات بشكل أوضح وأكثر حصرية، وهي الشركة الأضخم في الأرباح في الأعوام القليلة الماضية ما يجعلها المسؤول الأكبر عن إنعاش السينمات. فهي تملك مارفل وبيكسار وستار وورز وفوكس، ومنذ أيام قليلة أعلنت استراتيجية عملاقة لتزويد منصتها حصريًا بعشرات الإنتاجات السينمائية في خطة ممتدة لعام 2024.
لكن وارنر براذرز هي من تتلقى كل اللوم لمجرد أنها اتخذت القرار الحكيم.. الحل الوسط، أن تصدر أفلامًا ضخمة جديدة في السينمات فتجذب الحد الأدنى من النشاط لدور العرض متمثلًا في جمهور السينما الحقيقي ومهاويس السلاسل ممن يفضلون التجربة السينمائية على المشاهدة المنزلية،
صحيح ستقل أعدادهم بإتاحة نفس المحتوى أونلاين، لكن أن تقل الأعداد أفضل كثيرًا من بدائل ديزني وMGM التي تتمثل في اللاشيء.
عالم الجزر المنعزلة | 3 فقاعات تدفعك إليها منصات المشاهدة الإلكترونية | أمجد جمال
قرار وارنر براذرز مداه عام واحد فقط، وبعده ستتبدل الأمور حين تستقر الحياة ونعود للطبيعة، وهو تعاطٍ واقعي مع مخاوف مبررة لدى المستهلكين في ظل وباء يقتل 3,000 شخص يوميًا في أمريكا.
بجانب أنه محاولة للاستفادة من إنتاجات الشركة للترويج للمنصة التي تملكها. أراها محاولة مفيدة لعالم المنصات، حيث تملك وارنر براذرز المكتبة الترفيهية الأكبر، تملك أرشيف MGM وUA ومسلسلات HBO وتملك مكتبة Criterion التي يعلم أهميتها كل سينيفيل حقيقي.
ورغم ذلك فإن أداءها جاء مخيبًا مقارنة بنتفليكس وديزني+ وآبل، لذا فهي تستحق دفعة دعائية لمحتواها المتفوق فنيًا.
وإن كان ترويج وارنر براذرز لمنصتها مفيدا، لكن تبقى شبهات حول كونه مشروعًا، حين يتعلق الأمر بأجور النجوم العاملين بتلك الأعمال الذي سيسري عليها القرار.
فمن المتعارف عليه أن هناك نسبة من أرباح شباك التذاكر تذهب لبعض العاملين بالفيلم وتنص عليها العقود. هذه النسبة ستتأثر قطعًا بإتاحة المحتوى على المنصات بالتزامن، وسيكون هذا ظلما ماديا للفنانين، من المؤكد أن النقابات ستتدخل لرفضه.
وارنر بدأت في اتخاذ خطوات فعلية حيال تلك المشكلة، واتفقت مع النجمة Gal Gadot والمخرجة Patty Jenkins على مبلغ 10 ملايين دولار كتعويض عن عرض فيلمهم 1984 Wonder Woman على المنصة، وهي نسبة معقولة تقترب من 1% بافتراض أن الفيلم كان ليحقق مليار دولار في شباك التذاكر في الظروف العادية المستحيلة الآن.
يبقى أمام وارنر براذرز إجراء تسويات مشابهة مع نجوم ومخرجي باقي الأفلام المنتظر عرضها بهذه الشكل في 2021.
لكن الأصعب سيكون التسويات مع شركائها في الإنتاج، تلك الشركات الصغيرة التي تصنع الأفلام لتوزعها وارنر لن تستفيد شيئًا من ترويج الشركة لمنصتها، هذا تحدٍ أول.
التحدي الثاني أمام وارنر براذرز هو أن منصتها HBO Max ليست متاحة للاشتراك إلا داخل الولايات المتحدة، وبهذا تضيع الشركة سوقًا كبيرًا، كما تعرض إنتاجاتها لنسب قرصنة أعلى. كما ذكرنا، Tenet حقق النسبة الأعظم من إيراداته من خلال السوق الدولي لا الأمريكي، وبالتالي قوة هذا السوق ستنكمش مع إتاحة الأفلام للقرصنة بسهولة بالتسريب عبر HBO Max،
وهنا تخسر وارنر الاستفادة القصوى بالسوق العالمي كسينمات، كما تخسر استفادة الاشتراكات في المنصة من خارج أمريكا. الخطة أن يتوسع نطاق المنصة في أوروبا خلال عام 2021، متى بالضبط؟ غير مؤكد.
قاعات السينما أم المشاهدة المنزلية؟ 5 فروق رئيسية قد تحدد مستقبل قاعات العرض | حاتم منصور
هل ستنتهي السينما كما عرفناها بسبب قرار وارنر؟ القرار نفسه تحصيل حاصل وليس مصدر المشكلة. بالطبع ستتأثر بعض دور السينما بسبب جائحة كورونا، قليل منها لن يصمد، لكن تجربة مشاهدة الأفلام داخل السينمات مع أكبر عدد من المتفرجين وبالتفاعل تجربة لن تنتهي قريبًا.
المخرج الكندي “ديني فيلينيف” وهو أحد أبرز المعترضين على قرار وارنر براذرز ذكر السبب في عريضة احتجاجه وكأنه يرد على نفسه: “البشر من قديم الأزل متعلقون بسماع الحكايات بالشكل الجمعي”.