الضرب.. السجن.. النفى خارج البلاد.. الإعدام بأبشع الطرق.. كل ما سبق مجرد عينات من العقوبات التي تعرض لها ملايين على مدار التاريخ حتى اليوم، بتهمة ازدراء الأديان أو السخرية من المقدسات الدينية.
في الشرق الأوسط، لا تبدو الأمور على مشارف تغيير قريب. بل ويمكن القول على ضوء الحوادث الأخيرة في أوروبا، إن ثقافة الشرق الأوسط الإسلامية، بصدد إعادة هذه القضايا للنقاش والجدل داخل أوروبا نفسها، بعد أن كانت شبه محسومة، وتندرج بالأساس تحت بند حرية الرأي والتعبير.
هل أعلنت أوروبا الحرب على ثقافة المستضعف/المتسلط؟ ماذا يفعل المسلم العادي؟ | خالد البري
التصنيف كـ “جريمة” يبدأ فقط في اللحظة التي تحرض فيها على إيذاء بشر بشكل مادي ملموس. ولهذا السبب بالمناسبة جرت العادة في أوروبا لعقود على “تجريم إنكار محارق اليهود”، باعتبار إنكارها وادعاء زيفها، خطوة مرتبطة بإعادة اضطهاد اليهود وأذيتهم.
تجريم إنكار محارق اليهود أو تجريم إنكار الهولوكوست، يستخدمه أصحاب الميول الاسلامية بافراط حاليًا لنفى وجود حرية الرأي والتعبير في الغرب بشكل مطلق، ناسين – أو متناسين – أن هذا التجريم “الذي لم يستمر بالمناسبة ورُفع مؤخرًا في أغلب الدول، حدث فقط لحماية فئة دينية وعرقية تعرضت لمذابح إبادة جماعية، من إعادة المأساة، لا لحمايتهم من “جرح التعرض للتشكيك في مقدساتهم الدينية”!
فيديو | الخريطة الجينية | أن تكون فلسطينيا وتكتشف أن أجدادك كانوا يهودًا ! | الزاوية البعيدة
إنكار اليهودية من حيث الصحة كديانة، أو السخرية من مقدساتها ورسولها في الغرب، لا يُصنف كجريمة قانونًا.
وبالتالي، فالمقارنة العبثية التي يستخدمها الإسلاميون لا محل لها من الإعراب، ولا تعكس إلا حقيقة واحدة: أن أصحاب هذه الميول يريدون المساواة بين (قتل بشر – التشكيك أو الطعن أو السخرية من الأفكار الدينية لبشر). وهي مساواة لا تعكس إلا استهزاء بالأراوح.
على كل، أيًا كانت ديانتك وطائفتك وقناعاتك، فالسؤال الأساسي هنا هو: هل الطعن والسخرية من مقدساتك ومقدسات غيرك، كارثي وضار جدًا فعلًا للمجتمع من الناحية العملية؟
حيلة الإسلاميين والمتدينين الكلاسيكية أن ازدراء الأديان يؤدي إلى العنف. بالتالي، يجب تجريم أي طرح فكري به شبهة من هذه الجوانب، لحماية أفراد المجتمع من العنف والدم.
والحقيقة العملية أن العكس صحيح. المناخ الديني المغلق لم يؤد أبدًا لبناء مجتمعات سلمية وصحية، بقدر ما أنتج متعصبين مبدأهم العنف. انظر لخريطة الدول العربية والاسلامية، وإحصائيات الحروب الأهلية والحوادث الطائفية والإرهابية فيها، وستعرف عمليًا نتائج تربية أجيال وأجيال، دون التعرض لطعن وسخرية من مقدساتها.
أفخاخ الإسلاميين | 11 | كيف أفسدت الصحوة الإسلامية أخلاق المجتمع؟ | هاني عمارة
في نفس العالم، لكن بعيدًا عن الشرق الأوسط، يستيقظ متدين ما في الخارج، ويقابل في كاريكاتير جريدة، أو قناة تليفزيونية، أو مقال على الإنترنت، طعنة مباشرة في قناعاته ومقدساته الدينية، واستهزاء وسخرية منهما.
ما يفعله بعد ذلك مثير للتأمل: لا لن يفكر في ذبح أو تفجير أحد، ولن يطالب بمنع الجريدة أو اغلاق القناة. سيذهب لجامعته أو مقر عمله، ويبني الأوطان التي يحلم ملايين منا بالهجرة ليها، ونتساءل أمام أخبارها وإنجازاتها بحسرة: متى نصبح مثلهم؟
بعيدًا عن القضايا والخلافات الدينية، هل ترى الشرق الأوسط كمناخ يتقبل الآخر وأفكاره، في أي قضايا؟ كم مرة شاهدت خلافًا عاديًا في الرأى بخصوص السياسة أو الاقتصاد أو الفن أو كرة القدم، وهو يتحول سريعًا إلى معارك دامية، ولكراهية أبدية؟!
الحقيقة أن القناعات لا تتجزأ. لا يمكن بناء مجتمع منفتح لكل النقاشات والقضايا والأفكار، مع وجود إجراءات لتحصين المجتمع من نقاشات وأفكار محددة في نفس الوقت!
بيدوفيليا وازدراء أديان | سبع أعمال أثارت غضب ملايين ضد نتفليكس | حاتم منصور
فقط عندما نعتاد جميعًا على التعرض لرفض وتشكيك وسخرية في أهم قناعاتنا ومقدساتنا وأفكارنا، سنصبح مؤهلين لنقاش باقي الأفكار والقضايا بتحضر، وللتعايش مع الآخر. سواء كان هذا الآخر جارك/زميلك في العمل.. إلخ، أو شخصا يعيش في بلد آخر بثقافة أخرى، وتصادف أن قرأت له فكرة أو طرحا.
من طرائف مجتمعاتنا في الشرق الأوسط، أنها تطالب دوما بمساحة حريات سياسية أكبر من السلطات، في الوقت الذي تطلب فيه من نفس السلطات، قمع وحصار أية حريات أخرى قد ينتج عنها طرح فكري ناقد أو ساخر من مقدساتها الدينية وثوابتها الاجتماعية!
المشهد عبثي ومتناقض. نريد ديمقراطية وحرية رأي وتعبير، تسمح برسم كاريكاتير ساخر من ملك أو رئيس أو وزير، أو بعرض برنامج سياسي يحرض على تغيير هذا الرئيس أو الملك. لكننا نطلب من كل ملك ورئيس وحاكم، قبضة مسيطرة على كل صحيفة وبرنامج وموقع إنترنت!
دستور 1923 | كيف حلت مصر إشكاليات الهوية – المواطنة – الحريات قبل 100 عام؟ | مينا منير
والسؤال المنطقي البسيط هو: هل يمكن أن تمنح شخص/جهة/مؤسسة سلطات الحذف والحجب والرقابة وخلافه، ثم تتوقع ألا تستخدم هذه السلطة كل ما سبق ضد خصومها؟!
لا حريات سياسية بدون حريات فكرية. الغرب وصل لكليهما معًا، ومن العبث أن تأمل الوصول لأحدهما، وتفادي الأخرى.
وزير يصنف الهجوم على أدائه الوظيفي كهجوم واستهزاء بالدين. مفتي يصنف الهجوم على أدائه الوظيفي كهجوم واستهزاء بالدين. شيخ أزهر يصنف الهجوم على أدائه الوظيفي كهجوم واستهزاء بالدين. قسيس/ بابا يصنف الهجوم على أدائه الوظيفي كهجوم واستهزاء بالدين. طاقم مذيعين في قناة دينية، يصنف السخرية من أدائه الصوتي كهجوم واستهزاء بالدين.
خلاف شيخ الأزهر والخشت: مئتا عام من المساومة مع الدولة المصرية| خالد البري
ما سبق من عينات مجرد نتائج منطقية، لمجتمعات يسهل ابتزازها بلغة الدين. والنتيجة بشر محصنون من النقد، ومراكز وظيفية يصعب تغييرها، ومجتمعات تتراجع يومًا بعد يوم، دون أن تواجه نفسها بنقطة من أهم نقاط استغلالها وتراجعها.
الغالبية في الشرق الأوسط، على اختلاف طوائفها ودرجات تدينها، متفقة أن مجتمعاتنا في حاجة إلى “اصلاح ديني حقيقي”. لكن نفس الأغلبية – ومعها بعض الفئات التي يُفترض أنها من دعاة الحريات – تطالب علنًا بحبس وعقاب كل من يجرؤ على فتح هذا الملف بشكل جدي، بتهمة ازدراء الأديان.
شكرًا أحمد الرافعي .. الآن اكتملت دراما مسلسل “الاختيار” | خالد البري
فقط عندما تختفي هذه التهمة، ويصبح التشكيك في مقدساتك غير مصنف أصلًا كجريمة، والنقاش مفتوح لمراجعة كل الأفكار والقناعات، سيمكن صناعة إصلاح ديني حقيقي، وصياغة قناعات دينية مختلفة، وبناء جيل يتعامل مع الدين ويتأثر به بشكل مختلف عن الحالي.
طلب إصلاح ديني حقيقي وفعال، مع تحصين القناعات والثوابت الدينية في نفس الوقت، واختلاق عقوبات وحساسيات لا حصر لها في هذا الشأن – من نوعية ازدراء الأديان – أشبه بأن تطلب من فريقك تسجيل أهداف في الخصم، بشرط عدم الاقتراب من نصف ملعبه!