Belfast | شكسبير يشعر بالغيرة وكينيث براناه لا يبالي | حاتم منصور

Belfast | شكسبير يشعر بالغيرة وكينيث براناه لا يبالي | حاتم منصور

8 Feb 2022
حاتم منصور
سينما عالمية
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

توقعات محددة تخطر على ذهن متابعي السينما، مع سماع جملة “فيلم جديد للمخرج البريطاني كينيث براناه”، وهى الجملة التي تنطبق على فيلم Belfast.

أولها بالتأكيد أن الفيلم غالبا مقتبس من مسرحية لشكسبير، لأن أشهر أفلام كينيث براناه كانت مقتبسة منها. في الحقيقة في فترة ما خلال الثمانينيات والتسعينيات، كان براناه يوصف باعتباره لورانس أوليفييه الثاني، بسبب هذا الارتباط بشكسبير.

أشهر الأفلام التي أخرجها براناه اقتباسا من شكسبير

وثانيها أن الفيلم مرتبط بأبعاد أسطورية وتاريخية وأجواء فخيمة، لأن براناه كمخرج – عندما يبتعد عن شكسبير وملوكه – يقدم قصصاً وشخصيات من عينة ثور في عالم مارفل السينمائي، أو سندريلا في أكثر حالاتها الانتاجية بذخاً مع ديزني.

أو ربما نتوقع رواية بوليسية ما مقتبسة من أعمال أجاثا كريستي، لأنه أخرج مؤخراً فيلمين من هذا النوع، وشارك في بطولتهما.

أفلام أخرجها براناه اقتباسا من روايات أجاثا كريستي

الشىء الغريب في فيلم بلفاست Belfast أنه يخالف كل ما سبق.

يخالفه لدرجة أنه أول فيلم في مشوار براناه يذكرنا بحقيقة أنه أيرلندي الأصل، وأنه وُلد وعاش حتى التاسعة من عمره، في نفس المدينة والعاصمة التي يحمل الفيلم اسمها (بلفاست)، قبل أن يهاجر مع أهله الى انجلترا.

بعيدًا عن الأوسكار وهانيبال | 10 أدوار وأمجاد أخرى في تاريخ أنتوني هوبكنز | حاتم منصور

وبدرجة ما نحن مدينون لأزمة الوباء بالفضل في ميلاد هذا الفيلم، لأن قرارات الحظر والإغلاق، كانت السبب في تحرر براناه فنياً، وحصوله على وقت أكبر مع نفسه، سمح له بكتابة فيلم متعلق بذكريات طفولته.

النتيجة؟ الفيلم الأفضل في مسيرته كمخرج.

إعلان Belfast

الأحداث تبدأ عام 1969 وتدور حول أسرة من الطبقة العاملة، تعيش في مدينة بلفاست شمال أيرلندا، تنقلب حياتها رأساً على عقب عندما تشتعل الاضطرابات بين البروتستانت والكاثوليك.

هذا الصراع الذي يبدو على المستوى السطحي خلافا دينيا وطائفيا، كان له أبعاده ودوافعه السياسية والقومية أيضاً.

لكن الفيلم لا يشغل باله بفك شفرة هذه التعقيدات، لأن السرد هنا بالأساس من منظور طفل صغير، هو بطل الفيلم الذي يرى فيه براناه طفولته، عندما عاصر هذه الأحداث والصراعات دون أن يفهمها.

5 أفلام مؤثرة عن جحيم الحياة تحت حكم طالبان وأخواتها | حاتم منصور

الانحياز لروح الطفولة وبراءتها، وتوظيفهما كمنظور للسرد، لا يبدو كفكرة جديدة على المستوى السينمائي.

على سبيل المثال يمكن ذكر أفلام مثل أمل ومجد للمخرج جون بورمان، والأرنب جوجو للمخرج تايكا وايتيتي، كعملين عن أهوال الحرب العالمية الثانية من منظور أطفال.

لكن باقي المعادلة في بلفاست، وبالأخص تصويره بالأبيض والأسود، تجعل التركيبة ككل منعشة أكثر.

عادة يخلق التصوير الأبيض والأسود درجة من الاغتراب والخيال في ذهن المتفرج، لأنها تركيبة لونية مخالفة عما نراه في الواقع.

دستة أفلام حديثة عادت بنا لسحر سينما الأبيض والأسود وتستحق المشاهدة | حاتم منصور

أو ربما الانطباع أن تاريخ الأحداث عتيق، لأن الصور الفوتوغرافية والسينما والتليفزيون كانوا بالأبيض والأسود فقط في بداياتهم.

توظيف الأبيض والأسود هنا، يتركنا مع الإنطباعين في نفس الوقت.

فهو من ناحية يلامس الطابع الحالم لفنان اسمه كينيث براناه، يسترجع ذكريات طفولته، ويريد توريطنا معه في نفس المنظور العاطفي الخيالي اللاعقلاني لأى طفل.

ومن ناحية أخرى يتركنا الأبيض والأسود مع انطباع أن كل ما نشاهده انتهى تماماً واختفى، ولم يبق منه الا ذكريات في قلوب من عاشوه، وهى نقطة منسجمة مع روح الفيلم.

وما الدنيا إلا ملعب كبير | أعظم 10 أفلام عن الرياضة | حاتم منصور

من البصمات البصرية الأخرى التي تستحق الذكر، اللقطات الكلوز التي يستخدمها براناه، ليستعرض انفعالات شخصية وهى تستمع لأخرى.

وهى مدرسة على بساطتها كفكرة، تحصر انفعالاتنا واهتمامنا في نطاق الأسرة التي تدور عنها الأحداث من ناحية، وتخلق أيضاً من ناحية أخرى قدراً من الغرابة، حيث المعتاد أن تتابع الكاميرا المتحدث، بدلا من المستمع (تارنتينو يعشق هذه اللعبة بالمناسبة).

ومن وقت لآخر يوظف براناه البصمة البصرية، التي يسهل توقعها مع أى عمل من منظور طفل، والتي تتلخص في وضعية الكاميرا بنفس مستواه القصير.

ولأن السينما متعلقة بالمرح والتسلية بالأساس، لا ينسى براناه أن يضع لمسة بصرية مختلفة ومبهجة، في كل مرة تهرب فيها هذه الأسرة للسينما، لمشاهدة فيلم مغامرات خيالي يفصلها عن واقعها.

Don’t Look Up | معًا لنهاية عالم “مهزأة” وأكثر واقعية | حاتم منصور

ما سبق من وصف، قد يتركك مع انطباع خاطىء أن الفيلم معقد أو مكثف بصرياً، أو كما يقال بالمصرية (مليان فزلكة) لكن في الحقيقة كل ما سبق، مصنوع بشكل بسيط، وكأن روح الطفل الذي يريد أن يلهو دون أن يقاطعه أحد، عادت لبراناه أثناء تنفيذ الفيلم.

وللمزيد من الخصوصية الثقافية للمكان (بلفاست/أيرلندا)، اختار براناه شريط أغاني للفنان فان موريسون، وهو واحد من أيقونات أيرلندا.

كل ما سبق كان سيفقد جدواه، بدون طاقم تمثيلي جيد يستطيع اثارة تعاطفنا، ويدمجنا وسط الأحداث والأجواء، ويستدعي فينا دفء العائلة، بحيث تلامس تجربة المشاهدة ككل، ذكريات الطفولة المدفونة في كل متفرج.

الطفل جود هيل هو محور الارتكاز، ونجح في مهمته كممثل، لكن الجميلة كاترينا بالف (تلعب دور الأم) هى من يخطف الأنظار أكثر من الكل.

نفس الحضور يمكن قوله عن الممثلين في دور الجدين (كيران هايندز – جودي دينش)، وان كان نجاحهما أمرا متوقعا بالنظر لتاريخهما الفني.

المفاجأة كانت مع الممثل جايمي دورنان، الذي اشتهر ببطولة ثلاثية الأفلام الإيروتيكية خمسون درجة من جراي Fifty Shades of Grey.

هنا وللمرة الأولى يثبت موهبة مدفونة، كانت تنتظر الدور المناسب.

بقى أن أذكر أن الفيلم ككل يستدعي حتما مقارنات اجبارية مع فيلم روما Roma الذي كتبه وأخرجه المكسيكي ألفونسو كوارون عام 2018 اقتباساً من ذكريات طفولته، وقام بتنفيذه بالأبيض وأسود أيضا.

Roma.. ذكريات “كوارون” المشوشة تضع نتفليكس في مشهد الجوائز

على العكس من فيلم روما، المليء باللمسات الاستعراضية المصطنعة فنيا، لدرجة فشلت في توريطي عاطفيا ناحية أبطاله، رغم أن مشاكلهم أكبر، يتركنا بلفاست مع لمسة أكثر بساطة وصدقا.

والأهم أن براناه لا يحاول خلاله نهائيا أن يُضخم نقاطا مثل قضايا النسوية والتنوع العرقي، ليضمن بفضلها فرص تلميع أكبر في الأوسكار والإعلام.

كينيث براناه في كواليس التصوير مع الطفل جود هيل

ورغم أن بلفاست سيحصد غالبا عددا لا بأس به من الترشيحات، تتضمن أفضل فيلم وإخراج وتصوير وممثلة مساعدة، يسهل من الأن النظر اليه كعمل صعب أن يقطع الشوط للنهاية للفوز بأوسكار أفضل فيلم، في عصر تُكرَم فيه قضايا عرقية وأجندات نسوية محددة، وتقتنص فيه الجائزةَ الكبري أفلامٌ من نوعية نومادلاند.

Nomadland | كيف تصنع فيلمًا مملًا بالمواصفات القياسية لليسار والجوائز؟ | حاتم منصور

بلفاست فيلم مسلي، مصنوع بروح بريطانية، وبممثلين من أصحاب البشرة البيضاء، ويمكن اعتباره رسالة حب الى الأباء والى مؤسسة الأسرة، وإلى السينما التي نهرب إليها للفرار من الواقع.

كل ما سبق بلا استثناء معطيات لن تروق لفئات وأجندات، تحارب مفهوم الأبوة بشكله الكلاسيكي حالياً، ومنظومة الأسرة المكونة من أب وأم، وتسعى جاهدة لتحويل فن السينما الى مقالات وعظ مبتذلة، وتتلاعب بمفهوم الجوائز، ليصبح سؤال التصويت الفعلي سنويا ليس من هو الفنان صاحب الفن الأجمل، بل هو:

من الفنان الذي يملك بشرة ملونة وجنسية مهاجرة؟! وما تصنيفه الجندري؟

هذه معادلة تصويت لا يربحها كينيث براناه في أى خانة!

لكن بالفوز بأوسكار أو بدون، فقد ربح ما هو أهم في بلفاست؛ وأعاد ميلاد نفسه كمؤلف ومخرج، وتحرر من عالم شكسبير، ولقب “لورانس أوليفييه الثاني”، ليحصل على لقب فني جديد مستحق هو:
كينيث براناه الأول.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك