باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
“وهذه الآية عندي من المشكلات“.
بهذه العبارة وصف المفسر شهاب الدين الآلوسي، حيرته عند تفسير الآية 190 من سورة الأعراف: “فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون”، في قصة غواية إبليس لآدم وحواء عند ولادتها؛ ذلك لأن ظاهر الآية تصف فعل آدم بالشرك، بينما الأنبياء منزهون عن الشرك.
لم يقتنع الآلوسي بالمرويات أو تأويلات المفسرين السابقين، والتي عرضها ونقدها، ليميل – برغم نزعته السلفية – إلى تأويل الجبائي المعتزلي قائلًا: “وللعلماء فيها كلام طويل، ونزاع عريض. وما ذكرناه هو الذي يشير إليه كلام الجبائي، وهو مما لا بأس به.”
ما فعله الآلوسي في تفسير الآية منهج يغيب عن الكثيرين ممن يتعاطون مع القرآن،
الآلوسي لم يجد غضاضة في التسليم بأن ظاهر عدد من الآيات يحتوى على بعض المشكلات والتناقضات قد تظل بلا إجابة، أو تقدم لها أجوبة ناقصة غير شافية.
ولا أعني هنا إشكالات عصرية، بل بنيوية قديمة عقدية، أو لغوية، أو تشريعية، صنف فيها مع بداية عصر التدوين ويطلق عيها “مشكل”.
استحضر عبارة الآلوسي سالفة الذكر في آية ضرب الزوجات” “وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا“.
قرأت في تفسير آية ضرب الزوجة فوجدت فيها من مشكلات التفسير بمثل ما بدا للآلوسي. ولا أعني أيضًا المشكل العصري المتعلق بحقوق المرأة ورفض العقاب البدني، والذي يدور حوله الجدل المتجدد والمحتدم بين الأصوليين والتنويريين حاليًا، بل المشكل القديم الذي يتعلق بالتفسير والسياق والمعاني، على ما سنوضحه لاحقًا.
أولى هذه المشكلات ما ورد في التفاسير القديمة من أن النشوز هو بغض الزوجة لزوجها، وتعاليها عليه، وامتناعها عن الفراش. بما اعتبر فيها المفسرون أن الآية تحمل تدرجًا في العقوبة، تبدأ بالوعظ، ثم الهجر في الفراش، وتنتهي عند ضرب الزوجة.
واختلف المفسرون في معنى الهجر، ما بين الامتناع عن الجماع، أو الامتناع عن الكلام داخل البيت حتى مع استمرار العلاقة الجنسية. ووجه الإشكال هنا هو أنه إذا كان النشوز هو امتناع الزوجة عن زوجها وبغضها له، فلا معنى لهجرها؛ لأن هذا عين ما تريده.
هذا الإشكال تنبه له المفسر ابن جرير الطبري مبكرًا، فنقد تفسير الهجر بهجر الجماع وهجر الكلام، برغم أنه ذكر فيه الكثير من المرويات عن السلف.
وحلًا لهذا الإشكال، لجأ إلى تفسير غريب جدًا، قائم على أحد معاني كلمة هجر، بمعنى الربط. وعليه أصبح معنى “واهجروهن في المضاجع” بمعنى “قيدوهن في المضاجع”، وهو يوحي بمعنى إكراه المرأة الناشز على الجماع بالقوة. وعلى غير عادته لم يدعم هذا التفسير بمرويات السلف.
ولم أجد من المفسرين اللاحقين من أيده في هذا الرأي، بل استشنعوه، واعتبروه من زلات وشذوذات الطبري.
غرائب الفتاوى (4) | هل ربط الزوجة في السرير جائز شرعًا؟ | حسام أبو طالب
الإشكال الثاني كان فكرة ضرب الزوجة ذاتها؛ لأن الضرب بتفسيره المباشر في حق النساء يستشنعه العرف، خصوصًا عند العرب الذين أنزل عليهم القرآن، بالإضافة لمعارضته لمرويات نبوية توصى بالنساء، وتحث على الصبر عليهن. أضف إلى ذلك أن كثيرًا من مظاهر النشوز التي ذكرها المفسرون هي من طبائع شائعة بين نساء وأزواجهن.
ولحل هذا الإشكال، لجأ المفسرون للقول إن ضرب الزوجة المقصود ليس مبرحًا، بل الضرب الخفيف بالسواك أو المنديل، في غير الوجه والأماكن الحساسة. وألا يكون فيه إيذاء، أو يترك أثرًا في البدن، وهو التفسير الشائع قديمًا وحديثًا.
يواجَه هذا التفسير حاليًا بسخرية بعض التنويريين وناقدي رجال الدين المعاصرين، حيث يعتبرونه ترقيعًا،
لكنني أراه من زاوية أخرى، وهو الحفاظ على الصورة الشكلية للآية، بشكل أشبه بالممارسة الطقسية؛
هذه الزاوية تجعل دعوى الترقيع غير متحققة؛ حيث إن المفسرين الأقدمين حين وضعوا تفسير آية ضرب الزوجة بالضرب الخفيف، لم يكونوا في مواجهة نفس الإشكالات الحقوقية العصرية المتعلقة بالعقوبات البدنية أو المساواة التامة بين الرجل والمرأة. لم يكن غرض هذا التفسير استرضاء القيم الحالية.
يدعم هذا أن الإجراء الشكلي لضرب الزوجة هو ما ورد في القرآن فعلًا، في قصة النبي أيوب عندما أقسم على زوجته أن يجلدها مائة جلدة إذا شفاه الله. فكان الحل – حين شفي – هو الأخذ بمائة عود قش، وضربها ضربة واحدة ليبر قسمه، وهو معنى آية: “وخذ بيدك ضغثًا فاضرب به ولا تحنث”.
وتحويل النصوص التشريعية لممارسة طقسية شكلية ممارسة شائعة في الأديان وليس الإسلام فقط؛ فاليهود مثلًا لديهم نصوص تلزمهم بضرب أنفسهم في يوم الغفران لتكفير ذنوبهم. حاليا يمارسون الطقس بشكل رمزي من خلال الضرب الخفيف.
الإشكال الثالث هو الإشكال المعاصر الرافض لفكرة العقوبة البدنية.
وهو ما دفع العديد من التجديديين والتنويريين للبحث عن تأويل ينفي فكرة ضرب الزوجة بالكلية، مثل محاولات محمد شحرور وغيره من القرآنيين لتفسير الضرب بالتجاهل والهجران،
ومحاولة الشيخ أبي زيد الدمنهوري تفسير النشوز بالخيانة الزوجية، واعتبار الهجر مدة العدة، والضرب هو التفريق. كذلك ما ذكر صاحب تفسير الجواهر من تفسير ضرب الزوجة بالتوبيخ والتعنيف اللفظي.
وهناك محاولات عصرية أخرى، لكنها تبريرية، تربط فكرة ضرب الزوجة بالتحليل النفسي لظاهرة المازوخية؛ باعتبار الضرب قد يكون علاجًا لرغبات المرأة المازوخية والتي قد تكون دافعها للنشوز لاستفزاز الرجل لضربها. وهذا التفسير ألمح له سيد قطب في ظلاله.
أضيف إلى الإشكالات السابقة إشكالا آخر في الآية، وهي مسألة الالتفات (تغيير المخاطب) في الخطاب؛ الآية تخاطب الجمع، أما الزوج فذكر بضمير الغائب في الآية اللاحقة، وهي آيه الشقاق وإرسال الحكمين.
وَالَّلاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا
وهو يطرح أيضًا سؤال: كيف يكون موضوع الآية اللاحقة الشقاق ومحاولة الصلح إذا كان للزوج سلطة مطلقة في ضرب الزوجة وحبسها؟!
هذا الإشكال أظهر لي رؤية تأويلية مختلفة قد تحل سؤال الالتفات (تغيير ضمير المخاطب)، وإشكالات الآية بالعموم، وهي أن سلطة الضرب والعقاب مطروحة للجماعة أو القبيلة أو ولاة الأمر، وليس للزوج نفسه.
هؤلاء هم المخاطَبون بضمير الجمع في آية “وعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن”
وهذا ينسجم مع الآية اللاحقة في التحكيم والتي مطلعها: “وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها”.
لكن هذا التأويل يقتضي كذلك الأخذ جزئيًا بتفسير الطبري للآية بأن الهجر في المضاجع يعني الحبس في البيوت، وهذا يؤدي إلى أن معنى النشوز هنا هو تمرد المرأة ورفضها لسلطة وقوانين الجماعة، بما يخشى معه هروبها من بيتها،
فيكون التشريع لولاة الأمر أن يعظوا المرأة، ثم يحبسونها، وصولًا إلى الضرب كعقوبة تعزيرية يقوم عليها ولي الأمر وليس للزوج، ثم ينظر في شأنها مع زوجها بالتحكيم، وهو معنى الآية اللاحقة.