ما وراء سيدة المطر | أسطورة ياسمين صبري ويوتيوبيا القضاء على الفقر | حاتم منصور

ما وراء سيدة المطر | أسطورة ياسمين صبري ويوتيوبيا القضاء على الفقر | حاتم منصور

25 Nov 2020
حاتم منصور
مصر
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

من وقت لآخر، تفرض السوشال ميديا نفسها على الساحة، وتصبح ردود الأفعال الجماعية السائدة عليها في ترند واحد، مؤشرًا للكثير والكثير بخصوص بوصلة المجتمع في عشرات القضايا والأسئلة.

قصة ياسمين صبري – سيدة المطر نموذج جيد لهذا.

صورة لنجمة معروفة على طائرتها الخاصة، بجوار حقيبة باهظة الثمن. وصورة أخرى لسيدة تبيع ترمس على الرصيف في أجواء ممطرة.

الأولى تمارس ما تمارسه النجمات: التسويق لشركات الأزياء ومستحضرات التجميل من ناحية. والتسويق لنفسها كأيقونة الموضة والأناقة التي يجب أن تقصدها هذه الشركات من ناحية أخرى.

والثانية بائعة تمارس نشاطًا تجاريًا بسيطًا نعرفه جميعًا وسط أجواء باردة.

الفنان والكراهية والتطبيع | أسئلة مشروعة قبل إعدام محمد رمضان | أمجد جمال

موقع لصحيفة اعتبر التناقض بين الأوضاع المادية في صورتي ياسمين صبري / بائعة المطر بذرة ممتازة لتقديم فقرة البكائيات والصعبانيات الناجحة الكلاسيكية، عن الأغنياء الذين لا يشعرون بالفقراء، واللا عدالة في توزيع الثروات.. إلخ.

المفاجأة الأولى هذه المرة أن الفقرة لم تحقق نفس النجاح المعتاد، وأن نسبة كبيرة من الجمهور هاجمت الأسلوب، ورأت المقارنة منذ لحظة ميلادها على حقيقتها (ابتذالًا ورخصًا إعلاميًا).

التمييز ضد الأغنياء | عزيزي المواطن احذر.. أنت في مجتمع العنطزة والنفسنة | محمد زكي الشيمي

بالمقابل، حققت المقارنة قبولًا لدى آخرين؛ لارتباطها بوعى سائد في مصر والمنطقة العربية ككل، تغذيه التيارات الإسلامية واليسارية على مدار عقود وعقود، مضمونه أن الفقر منتشر بسبب سوء توزيع الثروات، وليس بسبب ضعف وتدني مستوانا إنتاجيًا. وأن الفقير ضحية للأخرين (الأثرياء).

ياسمين صبري قررت أن تقطع المزايدات، وأن تحول الهجمة التي استهدفت الطعن في جماهيريتها ونزاهتها إنسانيًا، إلى هجمة مرتدة سريعة سجلت فيها الهدف الانساني الذي تنتظره الجماهير العريضة، فاستضافت سيدة المطر وتعهدت بمساعدتها ماديًا لتصبح سريعًا على السوشال ميديا الإنسانة ياسمين صبري.

هذا حل جيد وذكي لياسمين بالتأكيد، ولا يمكن لومها عليه؛ لأن رأس مالها هو جمهورها. لكنه ببساطة جاء كاعتراف بأن مشكلة الفقر فعلًا سببها الأثرياء، باعتبار وجود الفقر مجرد نتيجة حتمية لجرائمهم، وأن الثري الطيب هو من يعترف بهذا ويطلب الغفران.

والحقيقة أن ياسمين صبري لم تسرق أموالًا من أحد، وأن ثروتها الشخصية تحققت بفضل نجاح في مهنتها. أما الأهم فهو أنها تساعد فعلًا بنجاحها ألاف وألاف الآخرين اقتصاديًا. الآخرون في الجملة السابقة تعني (من يعمل ويبحث عن عمل).

أولئك هم الرابحون .. كيف يتفاعل الاقتصاد ونفسية المجتمع | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

سواء كنت تحب أفلامها أو مسلسلاتها أم لا، فإليك حقائق اقتصادية بسيطة:

1- كل مسلسل أو فيلم منهم يوفر فرص عمل لآلاف وآلاف على مدار أشهر.

2- هذه الأعمال يجري تصديرها بالكامل للخليج ولدول عربية أخرى، وتساهم في إنعاش الاقتصاد بالعملة الصعبة.

3- تجذب هذه النجمة استثمارات من خارج مصر في المجال الفني، وهو ما ينتج عنه استمرارية في عجلة الفرص والتوظيف لآلاف آخرين.

بصياغة أخرى: ياسمين صبري.. النجمة الثرية صاحبة الحقيبة الباهظة، المتهمة بالغرور والسفه والبلادة، توفر فرصًا فعلًا للتحسن الاقتصادي في حياة آلاف غيرها، وهو ما لا يفعله عادة المزايدون الذين نصبوا أنفسهم سفراء متحدثين نيابة عن الفقراء.

فيلم كليوباترا | كيف لخص اختيار جال جادوت أزمات الشرق والغرب المعاصرة؟! | حاتم منصور

لكن الطريف في القصة أكثر وأكثر، أن سيدة المطر الفقيرة التي اختاروها لتقديم هذه الصورة الذهنية المحببة عن الفقراء في مصر وأسباب فقرهم، إثبات عملي على وهم هذه الأساطير.

للسيدة ابن لا يعمل، ورغم ذلك صمم على الزواج مرتين وأنجب ثمانية أبناء. ربما لأنه يرى وهو ووالدته أن (العيل بييجي برزقه) كما يردد شيوخ الجوامع في منابرهم. أو ربما لأنه مقتنع أن (الدولة تتكفل والدولة يجب أن توفر) كما يردد اليساريون في منابرهم.

بين حكايات الأخوين كيبلر وروايات سلافوي جيجك.. من صنع بؤس العالم؟ | مينا منير

أو ربما (أ و ب معًا) ما دام الابن مواطنا مصريا آخر، ترعرع في نفس وادينا الطيب حيث الإسلامجية واليساريون هما القائد والمعلم، وأصحاب الصوت العالي في أية قضية.

ولأن العيل كما هو واضح من شكوى الفقراء بعد الإنجاب لا يأتي برزقه فعلًا – يا للمفاجأة المذهلة – ولأن الحكومة لا تخلق الثروة من الفراغ كما يتوهم أطفال اليسار – يا للمفاجأة المذهلة الثانية – فالحل المطلوب والعادل طبعًا هو أن تصادر الدولة من مجهودات وثروات الآخرين، لتنفق بانتظام على الـ 8 أبناء المذكورين، وعلى ملايين آخرين مثلهم.

كلنا أولاد تسعة | اللمبي زعيما لليسار والإنسان كيوم ولدته أمه | خالد البري

لذا تذكر عزيزي القارئ أن ترددك بخصوص إنجاب طفل ثان بسبب امكانياتك، أو رفضك لإنجاب الطفل الأول أصلًا لنفس السبب، وحريتك في اتخاذ القرار المناسب في الموقفين، يقابلها من المنظور اليساري الأخلاقي، دولة يوتوبيا وحريات مثالية رائعة يجب أن تصادر منك بالاجبار، المزيد من أموالك في صورة ضرائب ورسوم وخلافه، لكي تنفق على أبناء من أنجب دون أدنى إحساس بالمسؤولية!

وبالطبع بعد أن تفعل الدولة ذلك فعلًا، سيحدثك اليسار نفسه أيضًا – ويا لها من نكتة – عن حقك المهدور، وعن الدولة التي سرقتك وأخذت مالك ولم توفر لك نفس مستوى الخدمات في أوروبا!

لماذا يميل اليسار للعنف؟! مؤشرات خطيرة من واقع بريطانيا | مينا منير

 * خذ كيلو البطاطس هذا وكتيب تحضير الكباب واطبخ لي وجبة كباب.

– ماذا تقول؟! لا تستطيع لأن البطاطس لا يمكن تحويلها للحم مشوي؟! لا. السبب الحقيقي أنك طباخ فاشل يا صاح.

* خذ معطيات وسلوكيات مصر الحالية وكتيب تحضير الدول المتقدمة، وأعطني نتائج ومعيشة أوروبا.

– ماذا تقول؟! لا يمكن أن ينتج عن الاحتفاظ بالمعطيات والسلوكيات الحالية نفس نتائج أوروبا؟! لا السبب الحقيقي أن حكوماتنا فاشلة يا صاح.

وإذا كان كل ما سبق من يوتوبيا اليسار لا يكفيك، فتذكر أن الأم الطيبة سيدة المطر بائعة الترمس، طلبت بعد الأزمة مساعدة مالية من الدولة، لا لتفتح محل مثلًا وتنتقل وهي وابنها العاطل لمستوى معيشي أفضل، وربما لمساعدة آخرين يبحثون عن عمل لاحقًا، ولكن لبناء دور إضافي في منزلها القروي، لابنها الآخر سيىء الحظ الذي لم يتزوج بعد، ولم يمارس حقه الإنساني في انجاب 8 أطفال آخرين، كأخيه الأكبر.

دراسة: المال أهم من الذكاء في التعليم الأمريكي.. لكن فرصة الفقراء قوية | س/ج في دقائق

يمكنك طبعًا أن تتخيل المتوالية الهندسية لهذه الأسرة البسيطة الطيبة، التي تتخذ قراراتها بنفسها وتمارس حريتها في ذلك، وتريد مني ومنك فقط استقبال فواتير هذه القرارات الأسرية الخاصة بصدر رحب، ودون اعتراض لأنها أسرة طيبة وفقيرة للغاية.

ويمكنك أيضًا بمتوالية هندسية أكبر وأوسع، تتخيل فيها ملايين الأسر من نفس النوع الآن في 2020 أن تستوعب نتائج هذه المدرسة الإنجابية وشكل المستقبل في 2050 مثلًا، وطبيعة التوزيع البشري الوارد في مصر وما يشابهها آنذاك.

دولة بها ملايين لا تعمل ولا تتقن أي شيء يذكر، ولا يبالي أهلها الفقراء بتغيير أحوال البشر الموجودين بالفعل، بقدر مبالاتهم بالمزيد والمزيد من الإنجاب، استعدادًا لعصر مستقبلي لن يحتاج لعمالة كثيرة ليس فقط في مجالات مثل الزراعة والصناعات الغذائية البسيطة كما هو الحال الآن، بل حتى في مجالات معقدة مثل صناعة السيارات والإلكترونيات وخلافه، توشك أن تتحول للروبوتات بالكامل.

الثورة الصناعية الرابعة.. هل يرث الذكاء الاصطناعي وظائف البشر كليًا؟ | س/ج في دقائق

أي يوتوبيا ننتظرها إذن؟! وإلى أي مدى سيظل الخطاب الإعلامي والاجتماعي يتبنى الحل الوهمي الخاص بأسطورة أن القضاء على الفقر لا يحتاج إلا لإعادة توزيع الثروات؟! وإلى متى يجب أن نشعر بالأسف والحرج والاعتذار لشخص قرر أن ينجب 8 و10 أطفال، ثم يحدثنا عن ضيق الحال، وعن ضرورة أن ننفق معه عليهم؟!

إذا كانت الأخلاق أن أرحب بهذا الطلب دومًا بابتسامة عريضة، فيسعدني إذن أن أعلن (عدم أخلاقيتي) وأن أطالب بتعميمها!

الفقر في حالات كثيرة صنيعة الفقراء. صنيعتهم لأنهم لا يريدون تغيير سلوكياتهم التي تنتجه وتضمن بقاءه وتوريثه.

وصنيعتنا نحن أيضًا؛ لأننا للأسف رضخنا لمزايدات اليسار وتفاهات الشيوخ، وأصبحنا محرجين أخلاقيًا من أن نشير بوضوح إلى أصل المشكلة وأسباب استمرارها، كي نتجنب اتهامنا بالقسوة واللامبالاة والطبقية وخلافه من التهم الجاهزة.

تقرير سري| كيف اعترف جمال عبد الناصر بفشل الاشتراكية في خطاب التنحي!! | مينا منير

والسؤال البسيط: أيهما أكثر أخلاقًا ورحمة وإحساسًا بالفقراء فعلًا:

1- شخص يشير إلى أسباب الفقر الحقيقية ويطالب بعلاجها، وهو ما يمكن أن ينتج عنه مستقبلا فيه فقر ومعاناة أقل؟

2- أم شخص انضم لسيرك المزايدات السائدة ويشارك في التمثيلية بكل تفاصيلها، كى يحتفظ بقبوله الاجتماعي وسط الباقين في قطار التحضر والإنسانية المزيفة، فصار يتبنى ويبارك كل الأفكار والمناهج التي أنتجت/تنتج/ستنتج عمليا فقراء ومعاناة أكثر وأكثر؟

الإجابة أتركها للقارئ.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك