يبدأ طفيلي أو Parasite – أحدث أفلام المخرج الكوري الجنوبي بونج جون هو – ببداية تبدو عادية، لكنها تمثل تقديمًا عظيمًا ودقيقًا للشخصيات، وتمهيدًا ضروريًا لفهم دوافعهم طوال الفيلم.
أسرة من 4 أفراد، تعيش في بدروم متواضع تحت مستوى الشارع، يرافقها فيه الصراصير وكافة الكائنات المتطفلة على بواقي الطعام. رغم هذا فأفراد الأسرة غير مهتمين بعلاج مشكلة الصراصير بقدر اهتمامهم بالبحث عن شبكة واي فاي أخرى يتطفلون عليها، بعدما غير جيرانهم شفرة دخول الشبكة الأولى التي يعرفونها!
بعدها، وعندما تبدأ حملة من البلدية في رش الشارع بمبيدات حشرية، يفكر الأبناء والزوجة في غلق الشباك لتجنب رائحة المبيدات، لكن الأب يخبرهما في صرامة وانتهازية، أن ترك الشباك مفتوحًا فرصة ذكية للحصول على (تطهير مجاني) للحشرات في المنزل!
بصياغة أخرى، هذا الأب يفهم جيدًا أن حياة الفقراء معاناة مستمرة، وأن الفقير الذكي هو شخص قادر باستمرار على المفاضلة بين اختيارات كلها سيئ، تمامًا كما تقبل هو تحمل ضرر وروائح المبيدات كثمن مقبول للحصول على منفعة أخرى!
بفضل هذا التمهيد نعرف الآن الكثير عن هذه الشخصيات، التي لا تماثل فقط فقراء كوريا الجنوبية، لكنها تماثل ملايين الفقراء في مختلف أنحاء العالم. هذا هو الفقر في الحياة المعاصرة، حيث يعرف الفقير شكل وتفاصيل حياة الغني بفضل الإنترنت والسوشيال ميديا – كلاهما صار ضمن الضروريات للغني والفقير – وحيث الفئات الفقيرة تبحث دومًا عن فرصة تطفل، أو أي شيء مجاني مهما كانت بساطته، يمكن انتزاعه من الأثرياء.
كيف أصبحت الأجندة النسوية المعاصرة في هوليوود منفرة؟ | حاتم منصور
كيف ستتعامل هذه الأسرة الفقيرة المتطفلة إذن عندما يحصل ابنها على فرصة عمل لدى أسرة ثرية؟ وهل تتغير سلوكياتها لتتعاطف مع الأسر الفقيرة المماثلة؟ وإلى أي مدى يمكن أن تتعايش مع فقرها وظروفها المتدنية دون لحظة انفجار ما في وجه الأثرياء المرفهين؟ أو في وجه أي فقير بائس آخر يعوق طريقها للترقي الاجتماعي، أو للحفاظ على مكتسباتها؟
هذه أسئلة يحاول بونج جون هو إجابتها في فيلم من أغرب وأفضل التجارب السينمائية لهذا العام، وضمن أفضل ما قدم هو طوال تاريخه. والأهم أنه يناقشها دون إدانة لطبقة دون الأخرى، أو نظرة استعلائية تقسم الطبقتين لفئة أشرار وطيبين على غرار الأفلام والمسلسلات العربية المصممة على تدشين فكرة أن كل ثري هو لص ومجرم، وأن موطن الأخلاق والشهامة حصري للفقراء.
المتابع لأفلامه – وهو واحد من صفوة المؤلفين والمخرجين في كوريا الجنوبية – سيلاحظ أنه يعشق دومًا تغيير الإيقاع، بحيث يلامس نوعيات سينمائية عديدة في نفس الفيلم، وينتقل بالمتفرج وسط أجواء مختلفة.
هنا يفعل نفس الشيء، وينتقل بنا من الدراما الاجتماعية، للكوميديا السوداء، لأفلام السرقة المنظمة والنصب، للدراما البوليسية، للرعب والدم والتوتر العصبي، وغيرها من الأجواء التي يصعب أن نتخيلها في فيلم واحد.
فن كتابة السيناريو.. 5 نصائح من كاتب THE SOCIAL NETWORK آرون سوركين | أمجد جمال
رغم هذا، فالواضح حتى الآن أنه ككاتب ومخرج يلمع أكثر حينما يقترب من الأجواء الموترة والمقبضة. ولهذا يعتبر الفيلم عودة حميدة لرونقه، بعد تجربة أراها فوضوية وفاشلة لصناعة فيلم مختلف لطيف الإيقاع وأقرب لعوالم هوليوود في Okja الذي عُرض في 2017.
رؤية بونج جون هو للمنازل والمكان والجغرافيا، ضمن أقوى قدراته كمخرج، وهي نقطة سيستشعرها كل من شاهد Memories of Murder – Mother – Snowpiercer بالأخص.
شخصيات أفلامه تكافح دومًا وسط محيطها الجغرافي الصعب والمعقد والمقبض لتحقيق انتصار ما. في Memories of Murder الانتصار هو العثور على قاتل، وفي Mother هو الحصول على دليل براءة لشاب قروي، وفي Snowpiercer هو إسقاط نظام سلطوي.
في كل هذه الأفلام يتسلط المكان على الشخصيات بدرجة ما سلوكيًا، وهو نفس ما يحدث في Parasite سواء في منزل الأسرة الفقيرة، أو في منزل الأسرة الثرية. والأهم أن المكان يتسلط على المتفرج أيضًا، بحيث يتفهم اختلاف دوافع وتصرفات الشخصيات طبقًا لاختلاف المكان.
في عيده الـ 20.. كيف احتفظ “الحاسة السادسة” بعنفوانه كل هذه السنوات؟ | حاتم منصور
يمكننا شكر مصمم الديكورات ومدير التصوير هنا بالتأكيد على إسهاماتهم في هذه اللعبة. ويعتبر الفيلم إجمالًا شهادة إثبات أن كوريا الجنوبية تملك خبرات ممتازة في أغلب المجالات التقنية، لكن يظل بونج جون هو الاسم الأهم هنا، كصانع سينما نجح في صياغة رونق خاص لمشواره، سواء على صعيد الأفكار أو على صعيد التنفيذ بصريًا.
قد يكون من المناسب هنا ذكر الفيلم الأمريكي Us للمخرج جوردان بيل، كعمل آخر هذا العام يتناول بمنظور ذكي ومثير، قضايا الطبقية والتطفل والصراعات بغرض الاستحواذ على فرص وممتلكات آخرين.
الجحيم هو “نحن” في Us | حاتم منصور
الفيلمان على كل اختلافاتهما من حيث الشخصيات واللغة ودولة الأحداث، إثبات عملي أن صناعة فيلم يحمل رسائل سياسية واجتماعية، لا تعني بالضرورة فيلمًا مملًا إنشائيًا خطابيًا، ولا تعني أيضًا استحالة الاقتراب من تيمات جماهيرية، مثل الكوميديا والمطاردات والرعب والعنف وأجواء الشد العصبي.
هذا درس نحتاجه هنا في المنطقة العربية بشدة، لأننا لا زلنا في مرحلة فيلم التشريح السياسي والاجتماعي، الفقير والمكرر، والأقرب إجمالًا للمقالات والخطب منه للسينما.
النصف الأول من Parasite قد لا يعشم بالكثير، لكن بمجرد أن يصل الفيلم لمحطة الصراعات، يبدأ نصف آخر يصعب نسيانه، في فيلم يتناول الصراعات الطبقية بطريقة مختلفة، ويستوجب المشاهدة من كل الباحثين عن عمل مختلف وأصيل.
مرشح لـ 6 جوائز أوسكار 2020 (فيلم – اخراج – مونتاج – سيناريو أصلي – تصميم انتاج – فيلم أجنبي).
حائز على 4 جوائز أوسكار 2020 كأفضل (فيلم – اخراج – سيناريو أصلي – فيلم أجنبي).
لماذا أصبح 1917 التجربة السينمائية الأهم في موسم أوسكار 2020؟ | ريفيو | حاتم منصور
Marriage Story.. لماذا نحتاج قصص حب عن الطلاق؟! | ريفيو | حاتم منصور
The Irishman.. كيف صنع سكورسيزي حفل تأبين “الرفاق الطيبون”؟ | ريفيو | حاتم منصور
Ford v Ferrari.. كريستان بيل ومات ديمون يتسابقان إلى الأوسكار | ريفيو | حاتم منصور
الجوكر.. كيف دافع الشيطان عن نفسه؟ | أمجد جمال
واكين فينيكس يقطع تذكرة الأوسكار الثانية للجوكر | حاتم منصور