ناقد فني
ديف تشابيل أحد أشهر المؤدين لكوميديا الستاند أب في هذا القرن.
بكل تواضع، يلقب نفسه بـ “وحش” (goat) المهنة. ومعه الحق، خاصة ورموز المهنة يتساقطون، بينما يظل صامدًا ومؤثرًا بشخصية قوية لم يتمتع بها كوميديان منذ جورج كارلين.
عُرف بدعاباته التي تستهدف البناء المجتمعي، الطبقات، والتيارات السياسية، والأعراق، والأقليات الجنسية.
ولا يزال يفعلها حتى اليوم، مهما زادت الخطوط الحمراء، ومهما بسطت الصوابية وثقافة الصحوة اليسارية “Woke” نفوذهما على لغة الخطاب.
الإسلاميون واليسار بين صحوتين.. الصحوة اليسارية تدعو إلى دين جديد| ترجمة في دقائق
العرض الأخير الذي يقدمه ديف تشابيل لصالح منصة نتفليكس يحمل عنوان The Closer.
أثار جدلًا واسعًا في الإعلام الأمريكي. مطالبات صاخبة من مجتمع الميم بحذف العرض من نتفليكس. ودعوات بـ “إلغاء” ديف تشابيل نفسه.
كل هذا وسط صمت الكوميديان المثير للجدل. وإن خرجت تسريبات تفيد بأنه حضر سهرة تمتليء بنجوم ومشاهير هوليوود. حيث لاقى تحية وتصفيقًا حارًا من الحضور، فعلّق: “لو كان هذا المقصود بالإلغاء، فأنا أحبه”!
السؤال الملح، لماذا ينجو ديف تشابيل دائمًا مما يقع فيه زملاؤه؟
ربما لأنه ببساطة لا يريد تقديم الأوسكار! أو بكلمات أخرى لا يريد شيئًا من أحد. نحن من نحتاج لموهبته وبقوة.
ثقافة الإلغاء | اليسار خارج السلطة يمارس هوايته في القمع | تعريفات في دقائق
دَلّل تشابيل سابقًا على تمسكه باستقلاله حين أوقف عرضه عبر Comedy Central عام ٢٠٠٥؛ بسبب تدخل الإدارة في المحتوى، وبسبب ضغوط العمل الذي جعلته يشعر بأنه كالعاهرة. ورمى بعرض الحائط عرضًا بـ ٥٠ مليون دولار.
يستشهد تشابيل بالحادثة في عرضه الأخير The Closer ردًا على هجوم بعض نجمات هوليوود عليه سنة ٢٠١٨ بسبب رأيه السلبي في me too.
تشابيل كان يعتبرها حركة منافقة تستخدم أساليب “بيضاء” وصبيانية للتصدي لثقافة التحرش مثل “ارتداء الملابس السوداء في حفل الجولدن جلوب” بدلًا من التمرد الحقيقي على المنظومة بتوقفهن عن الانتفاع ماديًا منها.
في هذا الصدد أطلق ديف تشابيل دعابته الأولى كالقنبلة: “أنتم ملغيات أيتها الساقطات، سأتوقف عن الاستمناء برؤية صوركن“. ثم أكمل فكرته: “تسألوني من أنا لأعلق؟! سأخبركم. أنا الشخص الذي ضحى بـ ٥٠ مليون دولار ليقفز من الحافلة“.
Cuties | بيدوفيليا أم فن؟ | كيف دفع الفيلم الخطأ ثمن خطايا اليسار والصوابية السياسية؟ | حاتم منصور
في لحظة أخرى من العرض، يحكي ديف تشابيل عن امرأة استوقفته وصاحت بغضب: “أشاهد عروضك .. أنت بالتأكيد تكره النساء”.
تشابيل اعتاد مواقف كتلك. وهي حقًا تحتاج لسرعة بديهة. لكنه ليس مجرد شخص حذق وخفيف الظل ويملك ردودًا ذكية، بل مفكر وفيلسوف من الدرجة الشعبية.
“قولي هذا الكلام في قسم التعليقات أيتها الساقطة، نحن في الحياة الواقعية الآن” – هكذا رد تشابيل على السيدة!
١. أن ما يقدمه “فنًا” دون أن يقولها مباشرة.
٢. يحذر الناس ضمنيًا من أخذ كلماته بجدية مفرطة وبالتركيز على قشور الكلام.
٣. يهرب من تهمة دون دفاع حقيقي عن نفسه بل بتحويل أسهم الهجوم لمنتقديه باعتبارهم لا يجيدون التمييز بين القضايا الحقيقية وبين صراخ السوشال ميديا الذي ينبع ربما من ساعات الفراغ.
اليساري سلافوي جيجيك: الصوابية السياسية هي تحديدًا ما يطيل عمر العنصرية | ترجمة في دقائق
فلتحاول عدّ المرات التي استخدم فيها ديف تشابيل الكلمات الحساسة: “ساقطة” bitch و”زنجي” nigger، خلال عروضه، وستفشل!
في عرضه السابق Sticks and Stones، يحكي عن حوار دار بينه ومنتجة سابقة لأحد عروضه، إذ طلبت منه التوقف عن استخدام كلمة التحقير من “شاذ جنسيًا” faggot:
– أنت لم تمنعيني من استخدام “زنجي”، فلماذا تمنعيني من استخدام “شاذ”؟
– لأنك لست “شاذًا”.
– ولكني لست “زنجي” أيضًا!
في The Closer يعود ويصف تلقيه لقاح جونسون المضاد لكورونا بأنه أكثر قرار “زنجي” اتخذه في حياته، دون إيضاح إذا كان يستهدف فكرة اللقاح أم نوعه أم تاريخ الخضوع لدى الزنوج، وتلك واحدة من سمات العبقرية في دعاباته، الالتباس في تحديد الضحية، والأدهى أن دعاباته تمتد أحيانًا لتستهدف أكثر من ضحية.
يستغل إصابته بالفيروس منذ عام ليضرب بمزيد من الدعابات. فيقول إن أكثر ما أحزنه أثناء فترة العزل، بقاؤه أمام الشاشة لرؤية مشاهد عنف في الشوارع، حيث يقوم السود بضرب الآسيويين انتقامًا من الوباء. ثم يقوم بتصوير ذلك العنف من زاوية بيولوجية قائلًا: “لعل هذا نفسه ما كان يحدث داخل جسدي وقتها.”
وتمتد دعاباته عن تجربة العزل الصحي لمنطقة شائكة أكثر، فيحكي أنه استغل وقت فراغه لتأليف قصة فيلم يحكي عن كائنات فضائية غزت الأرض لكن اتضح بأنها كانت تسكن الأرض بالأساس منذ آلاف السنين، فقط عادت لموطنها الأصلي بعد تردي الأحوال في الكوكب الذي هاجروا إليه. الدعابة كانت في العنوان الذي اختاره لهذه القصة: “يهود الفضاء”! في إشارة لتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
علاء الدين بين زمنين.. ربع قرن من الصوابية السياسية | مينا منير
نكات ديف تشابيل ضد إسرائيل لم تشعل الجدل، بقدر نكاته عن مجتمع العابرين جنسيًا، وهم الفئة الحاضرة دومًا في اسكتشاته. هذه المرة يتناول الفكرة من منظور انتفاع أفراد هذا المجتمع بامتيازات “البيض” لتسهيل تطبيعهم داخل المجتمع الأمريكي. يقول:
“أنا لا أحتقرهم، بالعكس أشهر بالغيرة منهم، لقد اتخذوا خطوات سريعة ومبهرة لتحسين أوضاعهم، لو كان أجدادي السود نشأوا ولديهم زيوت تسلخات وسراويل تبول قصيرة مثلهم، لربما نالوا حريتهم منذ قرون بعيدة”.
لكن، ما جعل نشطاء مجتمع الميم يطالبون نتفليكس بحظر العرض، كان إعلان تشابيل تضامنه مع الكاتبة ج.ك رولنج مؤلفة قصص “هاري بوتر”، التي تعرضت للمقاطعة منذ عام بسبب تغريدة كتبتها عن العابرين جنسيًا.
وختم ديف تشابيل عرضه بحكاية مؤثرة عن صديقة من العابرين جنسيًا تدعى “دافني”، وهي فنانة كوميدية ناشئة كانت مولعة بتشابيل، وأسند لها الأخير فرصة افتتاح أحد عروضه الكوميدية تشجيعًا لشغفها.
دافني أخذت صف تشابيل ضد قبيلتها من مجتمع العابرين حين اشتد الهجوم عليه بعد عرضه السابق Sticks and Stones، كتبت تغريدة تقول أنه: “لا يحتقر مجتمعها. فقط ينظم نكات، وهو بارع في مهنته“. هذه التغريدة عرضتها لهجوم شديد من أقرانها، ثم انتحرت دافني بعد أيام.
ورغم الشحنة العاطفية الكبيرة بهذا الجزء، لم يتوقف ديف تشابيل عن تسديد نكاته: “دافني كانت ستضحك على ما أقوله؛ لأنها شخصية مرحة.” ثم يخلص بمورال عرضه لنقطة غير متوقعة تمامًا.
أوروبا تعلن الحرب الجندرية | معركة اليسار لدخول حمام النساء تصل ساحات المحاكم | س/ج في دقائق
لا أتفق مع كل حرف قاله تشابيل. بل وأجزم أنه لا يعني نصف ما قاله، وهذا هو الممتع في الأمر!
من قال أن الكوميديانات هم فلاسفة العصر لم يبالغ كثيرًا. وخاصة كوميديانات الستاند أب، ممن يؤلفون عروضهم ويؤدونها بطريقة الحوار مع النفس، كما كان يفعل أفلاطون بنصوص محاوراته. كلاهما يطرح الأسئلة، كلاهما يستهدف بنقده الأمور غير العقلانية، كلاهما ينظر لما نظنه طبيعيا بنوع من الشك، كلاهما يرفض الثوابت، كلاهما يهتم باللغة ويحاول اللعب بثغراتها ليكشف عن جديد.
ما يعرضه ديف تشابيل في The Closer، مضحك، وصاخب، ومثير للتفكير، وصادم .. والمبهر حقا أنه ينجو في لعبة القفز على الحبال مهما كانت الحبال مشتعلة .. باختصار The Closer قطعة فنية تكافئ الأفلام والكتب والموسيقى.