يحفظ لنا التاريخ غرائب كثيرة حول تقلب العلاقات الدولية: من التقارب الإستراتيجي، إلى التحالف التاريخي، ثم إلى التنافس، فالعداء، فالصراع العسكري.
لكن العلاقة الفرنسية الأمريكية تبقى مثالًا يدرس لوحده كنموذج غريب الأطوار في تقلب العلاقات من تحالف يصل للتضحية بزهرة شباب أحد البلدين في سبيل استقلال أو تحرير الآخر، إلى صراع وطعن في الظهر، وتهديد نفوذ، بل ودعم أعداء الطرف الآخر.
إلغاء أستراليا لصفقة القرن التي وقعتها مع فرنسا 2016، والتي تشمل تصميم وتصنيع 12 غواصة ثقيلة، مع برنامج ضخم لنقل التكنولوجيا، إثر توقيع تحالف أمريكي أسترالي بريطاني صفقة لتزويد أستراليا بغواصات نووية، كان أحدث حلقة من مسلسل تسارعت حلقاته منذ نهاية الحرب العالمية.
سنحتاج مجلدات لتحليل أشكال الطعن في الظهر التي وجهها أحد البلدين للٱخر في 70 سنة، من حرب السويس، إلى حرب استقلال الجزائر، إلى التقارب الفرنسي الصيني والسوفياتي في الستينيات، إلى انسحاب فرنسا شارل ديغول من الناتو، ومضيها في برنامج نووي شامل حاربته أمريكا، إلى نقض معاهدة بريتن وودز، مرورًا بغزو العراق، وثورات الربيع العربي.
لذلك سنركز هنا على الفصل الحالي، والذي لن يكون الاخير طبعًا.
أستراليا وفرنسا جارتان لا يفصلها سوى بضع مئات كيلومترات.
نعم عزيزي قارئ العربية؛ فرنسا ليست تلك النصف مليون كلم مربع في أوروبا، بل لها أراضي ما وراء البحار الموزعة في كل القارات.
هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي تملك حضورًا بشريًا وعسكريًا في المحيطين الهندي والهادي؛ أي الخط الأول للصراع الغربي الصيني، ولو كان هذا التوصيف اختزاليًا لعدم تناغم رؤية الغرب لكيفية خوض هذا الصراع.
لدى فرنسا في المحيط الهادي جزيرة كاليدونيا الجديدة وأرخبيل بونوليزيا الفرنسية الضخم، بما يعطيها ثاني أضخم مجال بحري في العالم بعد المجال الأمريكي، ويجعلها جارة أستراليا بالضبط كنيوزيلاندا.
ولأن استراليا بحاجة ماسة لتطوير إمكانياتها البحرية، خصوصًا عبر الغواصات؛ لمواجهة الصين التي نجحت في تصنيع سفن حربية بعديد الأسطول البريطاني في أقل من 10 سنوات، أطلقت مشروع صفقة القرن للتزود بـ 12 غواصة كلاسيكية بمحرك مزدوج ديزل وكهربائي مخصصة للمحيطات.
تقدمت اليابان – فرنسا – ألمانيا لطلب العروض.
أزيحت ألمانيا لأن غواصاتها غير مخصصة لأعالي المحيطات بل للبحار فقط، وأزاحت فرنسا اليابان بتقديم برنامج ضخم لنقل التكنولوجيا وتصنيع الغواصات على أراضي أستراليا.
تجدر الإشارة أن غواصات فرنسا المقدمة إلى أستراليا مشتقة من الغواصات النووية الهجومية الفرنسية من الجيل الثالث التي دخلت في الخدمة رسميًا منذ بضعة أشهر فقط.
ولأن تزويد أستراليا بهكذا عدد من الغواصات في صفقة قدرها 50 مليار دولار ليس هينًا، خصوصا مع تضمنين نقل تكنولوجيا عسكرية، كان توقيع الصفقة إبرامًا لتحالف أستراتيجي طويل بين أستراليا – فرنسا.
وقتها مثل هذا التحالف اختراقًا إستراتيجيًا هائلًا لفرنسا حيث يمكنها من:
– توسيع رؤيتها الإستراتيجية للمحيطين الهندي والأطلسي، القائمة على فرض قانون البحار، وضمان حرية الملاحة الذي تعارضه الصين بشدة.
– زيادة مصداقيتها أمام دول المنطقة، كالهند حليفتها الإستراتيجية، بجانب اليابان وإندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايلاند وغيرهم.
– مصداقية إضافية لصناعتها العسكرية؛ كونها فازت بعد منافسة في بلد ديمقراطي ذي شفافية عالية.
– علاقة قوية مع دولة في الكومنويلث خارج نطاق النفوذ الفرنسي التقليدي، وتابعة فعليًا للتاج البريطاني.
التايمز: جو بايدن “يتلاشى”.. هل يصلح لقيادة أهم قوة عسكرية على وجه الأرض؟ | ترجمة في دقائق
ليس هنالك أصدق من هذا المثل الفرنسي ذي النزعة المتشائمة لوصف شيء بالغ الروعة بدرجة أنه أقرب للخيال منه للحقيقة:
Trop beau pour être vrai
فلم يمض أكثر من 4 أشهر، حتى بدأت قطاعات واسعة من صحافة أستراليا بمهاجمة صفقة فرنسا ونقد التباطؤ في تنفيذها، والاستخفاف بالمجهود الجبار لتأهيل الصناعة الأسترالية لنقل التكنولوجيا وبدء التصنيع.
من لحظتها، همست أوساط فرنسية كثيرة أن هذا الهجوم الصحفي غير بريء بالمرة، خصوصًا أنه متواتر ومنظم. أشبه بعمل اللجان الإلكترونية الإخوانية في منطقتنا.
وصل الأمر لدرجة تقارب “الاستهبال والضحك على الذقون”. وساعد هذا على التمهيد لخلق رأي عام معارض للصفقة، ناهيك عن ما دار في الكواليس من ضغط استمر لست سنوات على الأستراليين لمراجعة موقفهم.
لتأتي الضربة الحاسمة في 14 سبتمبر بإعلان التحالف الأسترالي الأمريكي البريطاني (وإن كانت إضافة بريطانيا أشبه بالفلكلور؛ لأن الغواصات النووية البريطانية صناعة أمريكية أصلًا).
وبإعلان التحالف، الذي يتعهد بتزويد أستراليا بغواصات نووية على مدى نصف قرن، ألغيت صفقة فرنسا.
كانت أستراليا تتبع سياسة تنويم للفرنسيين بإيعاز أمريكي؛ حتى آخر يوم كانت تتفاوض مع فرنسا لتوقيع المرحلة الثانية من العقد، بل وكان عمال أستراليون يتدربون في فرنسا على تصنيع الغواصات ضمن نقل التكنولوجيا.
الصين – أستراليا | هل بدأت الحرب الباردة في المحيط الهادئ لإسقاط ورثة السوفييت؟ | الحكاية في دقائق
لا شك أن التزود بغواصة نووية أمر هائل يرفع القدرات العسكرية لبلد ما لمستوى القوى العظمى. لكن الناظر للصفقة الأمريكية يرى أن زج أستراليا للخيار يخدم المصالح الأمريكية أكثر بكثير من المصالح الأسترالية.
من جهة، لن تحصل أستراليا على نقل للتكنولوجيا العسكرية؛ لأن الكونغرس سيعارض أي نقل لتكنولوجيا نووية. ويمكن في هذا رؤية بريطانيا، التي لم تحصل على التكنولوجيا إلا بنسبة 5% بعد 40 سنة من اعتمادها على غواصات نووية أمريكية.
كذلك، تحتاج صناعة غواصة نووية واحدة لضعف المدة التي تحتاجها صناعة غواصة كلاسيكية بأحسن الظروف. وقد كان التأخير المزعوم في صفقة فرنسا أحد أسباب هجوم صحف أستراليا التي احتجت بتهالك الغواصات القديمة الأسترالية، وأن الحاجة للغواصات الجديدة عاجلة لمواجهة البحرية الصينية التي ضاعفت حجمها في بضع سنوات، والتي تبني حاملات الطائرات بسرعة بالغة.
وحال صناعة الغواصة، ستبقى أستراليا رهينة الولايات المتحدة للتزود بالوقود النووي نظرًا لعدم امتلاكها صناعة نووية.
بالمحصلة، يمكن أن نفهم أن هذه الصفقة وقعت بين طرف أمريكي وطرف أسترالي الجنسية أمريكي الهوى، بل والولاء.
ما أشبه أمريكا اليوم بأمريكا الخمسينيات.
أمريكا خائفة من الصين كما كانت خائفة من السوفييت.
وكلما شعرت أمريكا بالخوف، كلما مالت لطحن حلفائها، وجعلهم ينصاعون إلى شروط التحالف معها. بل هي مستعدة لنزع أسباب قوتهم لجعلهم ينصاعون أكثر.
حصل ذلك إثر دعم أمريكا لمصر في أزمة السويس؛ لنزع السيطرة على القناة من حلفاء ذوي تاريخ إمبراطوري إستعماري يطمحون للعودة إثر دمار الحرب العالمية الثانية، ونقلها لدولة صاعدة يمكن التعامل معها بشحنات القمح والمساعدات التنموية.
وليست المرة الأولى التي استهدفت فيها أمريكا الصناعة العسكرية الفرنسية التي حاربت طوال سبعين سنة إثر هزيمة الحرب العالمية الثانية للحفاظ على استقلالها الإستراتيجي، بل والتفوق تكنولوجيًا.
كانت آخر فصول الاستهداف، صفقة الطائرات الحربية السويسرية التي كانت متجهة نحو الرافال الفرنسية بشهادة الجميع، قبل ان ينزل بايدن بنفسه في سويسرا ليمدح الإف 35، ويقلب عملية إسناد الصفقة أيامًا قليلة قبل الموعد.
وعلى إثر إعلان أستراليا إلغاء الصفقة، سحبت فرنسا سفيرها من واشنطن لأول مرة منذ توقيع اتفاق استقلال أمريكا في باريس قبل قرنين ونصف. مما يؤشر لأن الغضب الفرنسي وصل مستويات غير مسبوقة.
ذا هيل: حذار يا بايدن.. لا تهرب من ورطة أفغانستان بحصار مصر | ترجمة في دقائق
قد ينسى كثيرون أنه وخلال أقل من عقدين سيصبح الأمريكيون من أصول أوروبية أقلية في أمريكا، بما يضعف الروابط مع القارة العجوز. هذا التغير الديمغرافي سيقود حتمًا إلى تغيرات في الاستراتيجيات الدولية.
مخاوف في واشنطن: السعودية نحو روسيا.. هل خسرنا الرياض بسبب “حرق بايدن”؟ | ترجمة في دقائق