السبع صنايع | منير مراد .. إنصافًا لخفة فنان مظلوم ظل بلا شبيه | أمجد جمال

السبع صنايع | منير مراد .. إنصافًا لخفة فنان مظلوم ظل بلا شبيه | أمجد جمال

30 Aug 2021

أمجد جمال

ناقد فني

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

يصعب تخيل المسيرة التراكمية للفن المصري في الثلث الثاني من القرن العشرين لو لم يظهر منير زكي مراد (١٩٢٢-١٩٨١).

هذا الموسيقار النابغة في كل فن احترفه، من التلحين للرقص للتمثيل للغناء للموسيقى التصويرية للتقليد.

لولاه لاختفت نصف الأغنيات القديمة التي نصفها بـ “السابقة لعصرها”.

ولضاعت نصف النمر الاستعراضية التي تعلقنا بها.

ولخسرنا نصف الدويتوهات الغنائية التي علمتنا المعنى الحقيقي للدويتو.

ولتأخر تطورنا الموسيقي واللحني تأخرًا فوق التأخر.

والأهم، كنا سنحرم من طلة منير مراد نفسه، صاحب البيرسونا الفنية الأكثر تفردًا في عصره.

أن تتابعه على الشاشة فكأنك تسمع وترى معادلًا مصريًا تقريبيًا لجين كيلي وفريد أستير لو اجتمعا في جسد واحد.

حضور وظرف طاغٍ من سليل عائلة مراد الفنية، بجسده النحيف ووجهه الطفولي. بالتمايل والرشاقة والرقة التي تكسر الصورة الذكورية النمطية. وبنغماته الخاطفة التي توشوشه بها كائنات فضائية أو نورانية.

باختصار لم يكن له شبيه!

اغتيال السادات تسبب في غياب الفنانين عن جنازته ودفن بجوار عبد الحليم حافظ لهذا السبب.. محطات في حياة ”صانع البهجة” منير مراد | الموجز كافية | الموجز

الفيلم نوار في السينما المصرية | من كمال الشيخ إلى نسخة “السينما النظيفة” لساندرا نشأت | أمجد جمال

منير مراد .. المظلوم حيًا وميتًا

ظهر في بضعة أفلام، لكن نفوذه اقتصر على اثنين منها، من بطولته وإنتاجه ورؤيته موسيقيًا واستعراضيًا: “أنا وحبيبي” ١٩٥٣ و”نهارك سعيد” ١٩٥٥.

كلاهما أعاد تعريف السينما المصرية الاستعراضية. وبجانب كمّ الطاقة والجمال والتسلية، تجمعهما رسائل وتيمات تقدمية: الفن من أجل الفن، ومعاناة الفنان، والانتصار للمتعة والتجديد ضد التقعر والماضوية. وكأن مراد يحكي عن نفسه.

لكن من يطالع إسهامات منير مراد الجارفة في مطبخ السينما والموسيقى المصرية يدرك الخلل في كفة ميزان الاحتفاء.

حتى المتخصصون ظلموه “بعضهم بنيّة مدحه” حين وصفوا ألحانه بـ “الخفيفة المرحة”، وبين السطور أنها سهلة لا تحتاج لخبرة أو موهبة فذة.

لكن، إن كانت “الخفة” بتلك السهولة، فهل كان ملحنو الأغاني “الثقيلة” قادرين على مجاراة منير مراد في ملعبه؟!

في إحدى حواراتها، تقول شريفة فاضل إن السنباطي عرض عليها لحنًا رآه خفيفًا لا يناسب أم كلثوم. لكن حين غنته شريفة، صاح الجمهور باستهجان وطلب منها التوقف وأن تغني “حارة السقايين” و”فلاح” و”لما راح الصبر” لمنير مراد!

الفيلم نوار | 6 أفلام تدخل بك إلى عالم سينما الجنس والجريمة والظلام | أمجد جمال

الأصول اليهودية تطارده

في حياته، عانى منير من شائعات التعاطف مع إسرائيل التي طاردته وشقيقته ليلى مراد؛ بسبب أصولهما اليهودية، رغم إعلان إسلامه (١٩٤٩) وتغيير اسمه من موريس لمنير. وتقديمه العديد من الأغاني الوطنية والعروبية على مدار مشواره، ودعمه ثورة يوليو بشكل مباشر بأوبريت في فيلم “أنا وحبيبي”.

 كما رفض الهجرة أسوة بثلاثة من أشقائه وابنه الوحيد الذين هاجروا جميعًا لأمريكا وأوروبا مع تنامي نبرة الكراهية ضد اليهود.

هناك أمور عالقة بين السطور، خاصة أن دوره كان شبه انتهى كبطل على الشاشة في ١٩٥٥، أي قبل عام واحد من الحرب ضد إسرائيل، مكتفيًا بممارسة فنونه من وراء الستار، لكنه يقطع الشكوك والتخمينات في حواراته، ويُرجع سبب التوقف لظروف إنتاجية حيث لم يحقق “نهارك سعيد” ربحا في شباك التذاكر.

المثير للريبة، أن ١٩٥٥ أيضًا، شهد الظهور الأخير لشقيقته ليلى مراد في السينما! صدفة؟ أم مناخ عام؟!

مالكوم وماري | كثير من الجنس في حكاية عن تعقيدات العلاقات الزوجية | أمجد جمال

منير مراد/محمد فوزي

ظلموه مجددًا حين اعتبروه مجرد وجه آخر لعملة “محمد فوزي”.

في تبسيط مؤسف، يعتبر حلمي بكر أن “مراد تلميذ لمحمد فوزي وتأثر به كثيرًا.”

علاقة منير بفوزي كانت أقرب للندية؛ كان أكثر تأثرًا بتعبيرية عبد الوهاب شرقًا وموسيقى الجاز غربًا، وأثقل تعلمه الموسيقي الغربية أكاديميًا على يد اليوناني أندريا رايدر، بعدما أتقن عزف العود والقانون منذ طفولته؛ لكونه تربى في منزل المطرب زكي مراد (والده).

ومن التعسف تصنيفه كمتأثر بفوزي؛ سطوع فوزي سبق منير بخمس سنوات فقط (منتصف الأربعينيات)! لكن جرب سماع أغاني فوزي بأفلام الأربعينيات، لن تجدها مختلفة كثيرًًا عن الأغنيات القصيرة لعبد الوهاب والقصبجي بأفلام تلك الفترة، بينما إرهاصات نسخة “الفرانكو أراب” المتطورة من فوزي – التي تقارب منير  – فبدأت بمطلع الخمسينيات، أي بعد ظهور منير كملحن بالفعل. إذن فمَن تأثر بمَن؟!

نعم، فوزي ومراد هما المجددان الأبرز في الخمسينيات. لكنهما ليسا واحدًا. كل منهما جدد بطريقته.

والدليل أنه في سكيتش “محدش شاف” من فيلم أنا وحبيبي يقوم منير مراد بمحاكاة ساخرة لأسلوب فوزي بنسخته الأربعينية، لو كانا شيئًا واحدًا لما بذل الأول مجهودًا لتقليد الثاني.

اقتصاد السينما | نولان أم وارنر براذرز.. أيهما طعن الآخر؟ وهل قتلا دور العرض؟ | أمجد جمال

منير مراد في أعمال السيرة الذاتية

لم تجسد سيرة منير مراد الذاتية على الشاشة، لكنه لم يأخذ وضعًا لائقًا حتى بالأعمال التي تناولت سيرة الفنانين ممن تقاطعت حياتهم معه، مثل عبد الحليم حافظ.

في الفيلم، لا تجد أثرًا لمنير، وكأنه خيال ظل في رحلة العندليب! وفي المسلسل، حصد كل معاصري عبد الحليم على مساحة فوق العادلة، باستثناء منير مراد الذي لم يظهر سوى بمشهد مدته دقيقتين!

وظهر لا للحديث عن أعماله الرائعة مع العندليب بل ليقلل من شأن نفسه ويثني على لحن لصديقه ومنافسه كمال الطويل! بمشهد عجيب ومضحك يجعلني أشكك بنوايا كاتب المسلسل مدحت العدل.

لم يشفع لمنير مراد عشرات الأغنيات التي لحنها لحليم، على سبيل المثال: بحلم بيك، بكرة وبعده، قاضي البلاج، وحياة قلبي وأفراحه، بأمر الحب، أول مرة تحب، حاجة غريبة، ضحك ولعب وجد وحب ..إلخ

ولم يشفع له قربه الوثيق من حليم، فمنير أول من اكتشف موهبة حليم حين كان طالبًا في زيارة له بمعهد الموسيقى، انجذب لصوته فقام بتعريفه على شقيقه المنتج إبراهيم مراد.

وتوطدت صداقتهما فيما بعد، فكان حليم يصمم أن يصحبه منير في كل سفريات علاجه بالخارج.

وحين قرر عبد الحليم وعبد الوهاب تأسيس شركة إنتاج صوت الفن اختارا منير مراد مديرًا فنيًا للشركة! تلك كانت المكانة الحقيقية لمنير عند العندليب، والعكس، فقبل وفاته أوصى منير بأن يُدفن بجوار حليم وهو ما حدث فعلًا.

عصر هوليوود الذهبي لم يصدأ بعد (3).. كيف انتصرت لنا على السلطة الأخلاقية | أمجد جمال

تهمة تغريب الألحان

كثيرًا ما تتهم ألحان منير بأنها “خواجاتي”.

كان متعصبًا للأغنية القصيرة ضد القصائد والأغاني الطويلة. ففي الوقت الذي كان رفيق جيله بليغ حمدي يقول “ستظل الأغنية الطويلة باقية ما ظل القرآن يُقرأ”، كان منير يقول “خلاص انتهينا، أم كلثوم بس اللي من حقها تغني طويل لكن الباقيين يتعملهم أربع خمس أغاني فيهم تنوع بدل أغنية واحدة طويلة.”

وبخلاف معاصريه، كان منير يعمل بطريقة: اللحن أولًا ثم يأتي دور الشاعر، يقول “الموسيقى هي الأساس”.

أهم درس تعلمه من أندريا رايدر أن الموتيفة اللحنية هي كل شيء. كان ذلك شاذًا وقتها، لكنه صار الوضع الطبيعي الآن.

شغفه بموسيقى الجاز جعله أول من نجح بدمجها مع الأغاني العربية، بقالبي الـ swing والـ big band. وظهر ذلك بوضوح بأغنيات فيلميه، كما ظهر بأغنيات “بكرة وبعده” لعبد الحليم، و”إيرما لادوس” لشادية من فيلم “عفريت مراتي”، و”عايزين نحب” لسعاد حسني من فيلم “فتاة الاستعراض”، و”احنا كنا فين” لشادية وحليم من فيلم “دليلة” ١٩٥٦.

والأخيرة تحديدًا تعتبر من الاستثناءات الكلاسيكية الأنضج باعتمادها على الهارموني الغربي في العزف بدلًا من أحادية النغمات (unison) التي سيطرت على الموسيقى الشرقية منذ الاستعمار العثماني وحتى منتصف السبعينيات.

التطور لا يعني أن أغانيه خاصمت الوجدان الشعبي، فعلى العكس. هو أكثر ملحن تصاحبنا ألحانه في مناسبات وتفاصيل حياتنا،

فارتبط النجاح بأغنية “وحياة قلبي وأفراحه” و”آلو آلو احنا هنا”،

والخطوبة في “يا دبلة الخطوبة”،

والأعراس والزفاف في “على عش الحب”،

وارتبطت رحلات المصايف بـ “دقوا الشماسي”،

وحفلات السبوع بـ “سيد الحبايب”،

والوقوع في الحب بـ “أول مرة تحب يا قلبي”.

وكلها من ألحانه.

وكيف للبعض أن يعتبر أغانيه أفرنجي، وهو من لحن “كعب الغزال” لمحمد رشدي، و”حارة السقايين” “ولما راح الصبر” لشريفة فاضل، و”يا صابر” لهدى سلطان، و”يا بهية وخبريني” لشادية، و”آخر حلاوة” لمحمد العزبي.

ولحن أغلب القطع الموسيقية الشرقية التي رقصت عليها سامية جمال.

باختصار، كان كالحرباء الموسيقية، والأقدر على الذهاب من أقصى الشرق لأقصى الغرب في الأغنية الواحدة،

ولعبت نشأته الكوزموبوليتانية ودراسته بمدارس فرنسية واختلاطه بالجاليات الأجنبية وكثرة سفرياته، دورا كبيرا في ذلك.

تتلخص هذه القدرات في استعراض “قلبي يا غاوي ٥ قارات” لفؤاد المهندس وشويكار، واستعراض “أغاني حول العالم” من فيلمه نهارك سعيد.

مقامات منير مراد

ألحان منير مراد متهمة بأنها تخاصم المقامات الشرقية البحتة ذات الربع تون، مقابل تركيزه على المقامات النصف نغمية القابلة للعزف على البيانو.

تلك مبالغة، والدليل أنه لحّن من:
* مقام الراست “كعب الغزال” لرشدي و”حبني بعيونك” لهدى سلطان، و”الليل” لشريفة فاضل، و”الحق عليه” لحليم.
* مقام السيكا “ابعد يا حب” لعفاف راضي.
* مقام الصبا “سيد الحبايب” لشادية و”يعني وبعدين” لنجاح سلام.
* مقام البياتي: “ابعد عن الحب” لعادل مأمون، “فلاح” لشريفة فاضل.

كذلك يحسب لمنير مراد استخدامه لمقامات مهجورة، مثل مقام النكريز الذي صنع منه أغنية “سوق على مهلك” لشادية، وتعد أشهر أغنية نكريز.

واستخدم أيضًا السلم الخماسي في أغنية “يا حبيبي عدلي تاني” لشادية، قبل أن يعيد محمد منير غنائها بعشرات السنين.

والأهم، أنه أجاد الانتقال من مقام لآخر في الأغنية الواحدة بصورة بالغة الرشاقة نسبة لقصر زمن أغانيه. “على عش الحب” نموذجا، حيث تغني شادية المذهب من النهاوند، والكوبليه الأول من الكرد، والثاني من البياتي، والثالث من الحجاز، وتختم بالنهاوند.

 وفي ضحك ولعب وجد وحب، يغني حليم المذهب والكوبليهات الأولى على مقام عجم، ثم يتحول لمقام السيكا في الكوبليه الأخير “أيوة يا دنيا أيوة كدا عمري ما شفتك …الخ”.

ويشيد الناقد د. أسامة عفيفي بتلك النقلة في إحساس الأغنية، إذ اعتبرها من أنجح محاولات التعبير بالنغم عن الكلمات.

وفي “شغلوني عيونك” لفايزة أحمد، ينتقل منير من الحجاز للراست ويعود للحجاز، بطريقة أبهرت الموسيقار عمار الشريعي؛ فشبّه منير مراد ب “لعيب الكورة اللي بيرقّص في عشرة سنتي!”

أيضا، يحسب لمنير مراد التناول الطازج لمقام الصبا في “ما يهونش عليا أسيبه” لعايدة الشاعر. إذ تحول الصبا من مقام مرتبط بالحزن والانكسار إلى مقام وجداني رومانسي. لم ينجح في ترويض الصبا بهذا الشكل سوى فريد الأطرش في “زينة زينة”.

منير مراد وأم كلثوم

البعض شككوا في قدرات منير لكونه لم ينل شرف التلحين لأم كلثوم (مثله مثل فوزي وفريد الأطرش)، وهذا معيار ظالم بحالة منير خصوصا؛ لاختلاف توجهات الملحن عن المطربة. ورغم تقديره البالغ لأم كلثوم لم يكن متكالبا عليها، بل معتزا بلونه، فينفعل في أحد حواراته قائلا: “لحن الدويتو الواحد مني بعشر ألحان لأم كلثوم”.

كان يتحدث من منطلق الصعوبة، دويتوهات منير لم تكن مجرد غناء يجمع شخصين، بل توفيق صوتين بطبقات وطبائع مختلفة، وحالة تفاعل من الأخذ والرد، وترجمة لحالة الديالوج الموجودة بالكلمات إلى نغمات.

أتوقف دائما بانبهار أمام لحن “حاجة غريبة” لحليم وشادية بكم النقلات السلسة في مقاماته وإيقاعاته وطبقاته، وبمدة لم تتجاوز ٨ دقائق. مَن غيره يستطيع تلحينه بتلك الطريقة؟ لم يكن هناك غير منير إلا محمد فوزي!

haythamhassan666 · نعيمة عاكف – يا أهل الحي – فيلم 4 بنات وضابط

لنفس السبب تميز منير أيضًا بأغاني المجاميع والأناشيد الكرنفالية (أكثر من صوتين)، لذلك فأكثرية ألحانه بالسينما من مقام العجم (الميجور الغربي)، المعروف بأنه أنسب مقام للأناشيد والغناء الجماعي والكورس.

بالمناسبة كانت أكثرية ألحان سيد درويش أيضا من نفس المقام (ولم يتهمه أحد بالتغريب).

فإذا كان الأخير هو الإفراز الأنضج للمسرح الغنائي المصري وقت ذروته، فإن منير مراد هو المعادل الحقيقي لسيد درويش في السينما الغنائية. كلاهما كان يسعى خلف الجملة اللحنية التي تلتقطها جموع المسارح/السينمات/الشوارع/الحواري لترددها معهم.

إعادة التقدير بعد الأربعين؟

لا ينتظر محبو منير مراد أن تسمى الشوارع والميادين والمسارح باسمه، أو تجسد سيرته على الشاشات، أو أن تكتب عنه عشرات الكتب والدراسات والمقالات.

المشكلة أنه لم ينل ولو أقل بكثير، بل لم يتوقف الناس حتى عند خبر وفاته الذي يمر عليه ٤٠ عامًا؛

لسوء الحظ وفاته جاءت بعد أيام قليلة من اغتيال الرئيس السادات. ولم يمش في جنازته سوى بضع أقارب.

أسعدنا كثيرًا، ولم ينل الوداع الذي يستحقه.

موت القبلة الأولى | انهيار الحب وازدهار البورن في السينما النظيفة | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك