الفيلم الأول لرامبو بدأ عرضه عام 1982، والفيلم الخامس عام 2019. شخصيات سينمائية قليلة جدًا صمدت بنفس القدر في اختبار الزمن.
فارق السنوات يبدو واضحًا على وجه بطل الدور سلفستر ستالون، لكن بقدر ما ترك الزمن علاماته في وجهه، ترك رامبو علاماته على مدار هذه العقود، لدرجة يمكن معها تأريخ الكثير والكثير عن هوليوود وتفاعلاتها مع السياسة الأمريكية – والتيار اليميني بالأخص – على مدار 40 سنة.
لنترك إذًا كتب التاريخ المملة قليلًا، ونطالعه بمنظور رامبو!
أول دم – 1982
الإيرادات داخل أمريكا: 47 مليون دولار
إجمالي الإيرادات عالميًا: 145 مليون دولار
غرابة وجرأة هذا الفيلم وقت عرضه يصعب تفهمها الآن، لكن باختصار، كانت السبعينيات فترة إدانة للساسة الأمريكيين، وفترة إحباط للمجتمع بسبب أحداث أهمها حرب فيتنام وفضيحة نيكسون.
أفلام أواخر السبعينيات التي تعرضت لحرب فيتنام، وأشهرها صائد الغزلان Deer Hunter للمخرج مايكل تشيمينو، والقيامة الأن Apocalypse Now لكوبولا، دشنت رؤية سينمائية ثابتة عن هذه الحرب، مضمونها أن كل جندي أمريكي شارك بها، يجب أن يشعر بالخزي والعار، تمامًا مثل حكومته.
5 أسباب جعلت “جون ويك” علامة في تاريخ الأكشن | حاتم منصور
رواية أول دم First Blood التي كتبها ديفيد موريل ومقتبس منها الفيلم، نُشرت عام 1972 وتناهض هذه الرؤية نسبيًا بفكرة مضادة، مضمونها أن حرب فيتنام سواء كانت صوابًا أو خطأ من حيث الدوافع السياسية، ففي النهاية لا معنى لجلد الذات، وجلد جيل كامل من الشباب الأمريكي الوطني الذي شارك فيها.
رامبو في الرواية جندي أمريكي عائد من هذه الحرب بندباتها النفسية، وكل ما يطلبه حياة مسالمة لا يُعامل فيها باحتقار أو إذلال، لكن بسبب تراكم الإهانات والاحتقار والأذى النفسي والبدني الذي يناله لمجرد مشاركته فيها، يتضطر للتحول إلى آلة قتال عنيفة لردع كل الأفراد والمؤسسات التي تسعى لمعاقبته وإذلاله.
في نهاية الرواية يسقط رامبو ميتًا، لكنه في الفيلم ينجو ويخرج من حربه منتصرًا. والأهم أنه في الفيلم لا يبدو كشخص حطمته حرب فيتنام نهائيًا، أو منهار نفسيًا بنفس درجة الرواية، بقدر ما هو ببساطة بطل يُظهر أن المجتمع الذي يعاقبه هو المريض النفسي الحقيقي.
سواء تعمد صناع الفيلم هذا أم لا، فقد كتب رامبو بسبب ذلك، ومنذ فيلمه الأول، شهادة ميلاده كرمز لليمين الأمريكي. ولا عجب أن الجمهور الذي صوت للفيلم بحماس وقتها في شباك التذاكر، كان هو نفس الجمهور الذي اختار رونالد ريجان الجمهوري اليميني، كرئيس لأمريكا قبلها بعام واحد (1981).
كلينت إيستوود يحارب الزمن فيThe Mule | حاتم منصور
المد القومي اليميني الأمريكي كان يضخ دماءً جديدة للتفاؤل وإعلاء الوطنية والروح الأمريكية. ورامبو جاء في الموعد المناسب تمامًا للجماهير، ليس فقط ليغسل أهم وأقوى إحساس عام بالذنب لدى الأمريكيين (فيتنام)، لكن ليوجه أيضًا إدانة قوية لكل تيار أو فرد مصمم على وصم الأمريكيين بالعار الأبدي بسبب هذه الحرب.
قد تجدر الاشارة هنا إلى روكي. الفيلم الذي قام ببطولته ستالون أيضًا، وعُرض عام 1976 ودشن الشخصية كرمز للحلم الأمريكي، حيث الملاكم البطل الذي يسقط ويقاوم ويحاول مرة وألف ويستمر في الكفاح. رامبو بشكل ما يكمل الصورة من زاوية أخرى، باعتباره الفيلم المضاد لأعداء الحلم الأمريكي على أرض الوطن! هذا التفاعل بين الشخصيتين روكي ورامبو سيستمر كما سنشرح لاحقًا.
بفارق كبير يظل First Blood أهم وأقوى أفلام سلسلة رامبو؛ لأنه الفيلم الوحيد الذي تمر فيه الشخصية بتغيرات ومنعطفات درامية حقيقية.
رامبو: أول دم (الجزء الثاني) – 1985
الإيرادات داخل أمريكا: 150 مليون دولار
إجمالي الإيرادات عالميًا: 300 مليون دولار
لاحظ هنا مبدئيًا كيف انتقل اسم رامبو إلى العنوان على عكس الفيلم الأول، بعد أن تحولت الشخصية إلى أيقونة.
العام هو 1985. أمريكا تعيش ازدهارًا اقتصاديًا في عهد ريجان، والثقة وروح التفاؤل والوطنية تعود. مكمن الخطورة الحقيقية على الوطن لم يعد مؤسسات الدولة أو السياسيين الأمريكيين، كما جرت العادة في هوجة السبعينيات، بل أصبح السوفيت وأعوانهم.
الدولة العميقة ضد ترامب في الولايات المتحدة.. الأكذوبة الحقيقية | محمد زكي الشيمي
في الفيلم يعود رامبو لخدمة وطنه بمهمة داخل آخر مكان في العالم يرغب في العودة إليه. فيتنام نفسها! الرسالة هنا واضحة إذًا، وتمثل امتدادًا يمينيًا أكثر شراسة من الفيلم الأول، وملخصها هو: نعم.. الوطنية الأمريكية تُحتم استخدام أنيابنا وأسلحتنا خارج حدود الوطن، ولا، لم ولن نستسلم لهراء ومزايدات بشأن العكس.
عودة رامبو لفيتنام ليست مجرد حدث درامي في الفيلم، بل هي ببساطة رمز لعودة أمريكا لمسارها الذي آمن به التيار اليميني وقت الحرب الباردة. الدولة القوية التي تحارب أعداءها بالخارج وتفرض هيمنتها، ويصطف فيها الكل ضد العدو الأجنبي.
الشخصية الأخلاقية والوطنية المهمة الأخرى التي تظهر في الفيلم هي العقيد العسكري الذي كان قائد رامبو في حرب فيتنام قديمًا، أما الخونة فهم الحثالة التي اعتادت على ازدراء هذه الحرب وأبطالها.
رامبو في الفيلم ماكينة قتل وعنف بدون أي تردد، على عكس الفيلم الأول، والسبب بسيط للغاية. في الفيلم الأول كان أعداؤه بني وطنه. في الفيلم الثاني أعداؤه هم أعداء وطنه، ولا يرى فيهم إلا مجرد نفايات بشرية.
Long Shot.. الرومانسية الكوميدية من داخل المطبخ السياسي | أمجد جمال
سيناريو الفيلم كتبه ستالون بالمشاركة مع جيمس كاميرون. ومن المهم هنا أن نذكر أن الأخ الشقيق لرامبو (روكي) كان يواجه في نفس العام بطلًا روسيًا على حلبات الملاكمة، في الفيلم الرابع من سلسلة روكي، الذي كتبه وأخرجه وقام ببطولته ستالون.
بصياغة أخرى، لا توجد صدف. ستالون وطني أمريكي مخلص، وتخصص في هذه الفترة بتكريم وتلميع النموذج البطولي المطابق للأفكار اليمينية، في عصر الحرب الباردة.
رامبو 3 – 1988
الإيرادات داخل أمريكا: 54 مليون دولار
إجمالي الإيرادات عالميًا: 189 مليون دولار
نحن الآن في عام 1988. الضربات الداخلية للاتحاد السوفيتي تتوالى، مع فشل الاشتراكية في تحقيق أي رخاء. كوارث اضافية مثل تشرنوبل تبلور هذا الفشل أكثر وأكثر. حركات التذمر ضد السوفيت مشتعلة، والولايات المتحدة تساعد بسكب مزيد من الوقود على النار، وتدعم هذه الحركات.
تشرنوبل.. الانفجار السينمائي القادم من مفاعلات التليفزيون | حاتم منصور
رامبو في الفيلم يصطف مع “المجاهدين” الأفغان للقتال ضد السوفيت الملاعين! فكرة وطنية يمينية رائعة، لكن مهلًا مهلًا. رامبو رمز لأمريكا، وبالتالي سيبدو هذا تدخلا أمريكيا مفضوحا جدًا؟!.. نحتاج لمبرر درامي أفضل. هممممم.
ها هو: رامبو يحتاج إلى تحرير صديقه وقائده العسكري السابق من قبضة السوفيت، ونظرًا لاعتقال الأخير في مناطق حروب ضد “المجاهدين الأفغان”، فالطريقة الوحيدة لذلك هي الاصطفاف معهم وهم يقاتلون من أجل حريتهم ضد السوفيت الملاعين!
مشاهدة الفيلم الآن بعد هجمات سبتمبر 2001 وجرائم إرهابية أخرى، مسألة محرجة لرامبو بالتأكيد! لكن – تمامًا كما تؤرخ أفلام رامبو السابقة لزمنها بدقة – يؤرخ هذا الفيلم لزمنه ولخطيئة كبرى ارتكبها الساسة الأمريكيون وقتها عندما دعموا “المجاهدين”، ونسوا أن مهمة الإسلاميين ستظل دائمًا وأبدًا القتال ضد كل من هو مختلف.
كيف انتفضت هوليوود من تحت أنقاض 11 سبتمبر؟ | حاتم منصور
العنف في هذا الفيلم كاريكاتيري ومبالغ فيه لدرجة مملة، ومشاهد الأكشن رغم ضخامتها تفتقد للإبداع. باختصار: الفيلم هو رامبو في أسوأ حالاته من حيث المضمون والتفاصيل، ولهذا تناقصت إيراداته بشكل ملحوظ عن الجزء السابق. في هذه الفترة أيضًا سيبدأ ستالون التراجع جماهيريًا، وستستمر أزمته كنجم لسنوات وعقود لاحقة.
رامبو – 2008
الإيرادات داخل أمريكا: 43 مليون دولار
إجمالي الإيرادات عالميًا: 113 مليون دولار
نحن الآن في 2008. ستالون نجم عجوز ودع أمجاد الثمانينيات، وأمريكا أنهت الحرب الباردة منذ عقدين تقريبًا. حالة إدانة جديدة تسود على المستوى السياسي والاجتماعي بسبب حرب العراق. موجات الصوابية السياسية تبدأ بشائرها، وأمريكا تنتخب أوباما للرئاسة.
عودة رامبو في هذا التوقيت بعد غياب 20 سنة عن السينما غريبة إذًا بالنظر لهذه المعطيات، لكنها ضرورية.
كيف تعالج هوليوود أزمة تسويق الأفلام المثيرة للجدل؟ | حاتم منصور
رامبو في الفيلم عجوز يعيش في تايلاند، يحاول أن يمضي أيامه في سلام، ويعمل على قارب ركاب، لكن الحروب في بورما توشك أن تسفك بقافلة أبرياء أرادت تقديم مساعدات طبية للمصابين، وعليه الآن أن يعود للقتل وسفك الدم لإنقاذهم.
في أحد المشاهد يلخص رامبو وزن السلاح والعنف والقوة في فرض تغيير، ويسخر من المثاليات والأجواء الإنشائية اليسارية. في المشهد يخبر واحدًا من هذا النوع رامبو أنهم هنا لإحداث تغيير للأفضل. رامبو يرد بسؤاله: “هل أحضرت أسلحة معك؟” وعندما يرد بلا، يخبره رامبو بقسوة: أى تغيير تتحدث عنه إذًا؟!
رامبو هنا خارج حدود وطنه، لكنه لا يزال محتفظًا بنفس أخلاقياته وقيمه الأمريكية. العالم مكان مليء بالنفايات البشرية، والنفايات البشرية لا تُعالج بالحوار البناء والمؤتمرات، لكنها تُعالج بالرشاشات والقنابل.
الرسالة واضحة هنا. هراء السلام العالمي مكانه الأغاني والمقالات، لكن على أرض الواقع لا يزال العالم في حاجة إلى رامبو. في حاجة إلى أمريكا يمينية عظيمة تحمي العالم من هذه الأجيال الناعمة، التي توشك أن تفسد كل شيء بمثالياتها الساذجة، وأفكارها التافهة.
أساطير هوليوود يخوضون الحرب العالمية بسلاح الكاميرا (جزء 1)
هذا هو الفيلم الوحيد الذي أخرجه ستالون في السلسلة، واستفاد فيه بحصاد عقدين من التطور في التكنولوجيا والأدوات السينمائية، ليمنحنا مشاهد أكشن دموية ممتازة، ومجزرة “نفايات بشرية” رائعة في الثلث الأخير للفيلم، تفوق كل ما قدمه رامبو في الثمانينيات.
رامبو: آخر دم – 2019
الإيرادات: قيد العرض حاليًا
نحن الآن في 2019. ترامب اليميني في الحكم، وأجواء الاستقطاب والصراعات بين اليمين واليسار مشتعلة سياسيًا وإعلاميًا.
رامبو الآن عاد لأمريكا واستقر فيها للمرة الأولى منذ عقود، وحصل أخيرًا على وطن وحياة جديدة وعائلة وابنة تبناها.. ابنة مصممة رغم كل هذا الدفء والحب الذي يمنحه لها، أن تبحث عن خلاصها في المكسيك، حيث يوجد أبوها الحقيقي الذي تخلى عنها منذ لحظة ميلادها. رحلتها للمكسيك تنتهي بكارثة، والآن على رامبو أن يفعل المستحيل ويسفك الدم من جديد لانقاذ الموقف.
فيلم كليوباترا | كيف لخص اختيار جال جادوت أزمات الشرق والغرب المعاصرة؟! | حاتم منصور
الرموز واضحة إذًا. أمريكا يمينية أخرى عظيمة تبدأ من جديد في عهد ترامب، لكن شباب أمريكا الساذج المنساق وراء الهراء اليساري لا يستوعب عظمة الفرصة، ويهدم كل شيء بهرولته خلف هراء التنوع العرقي ومزايدات الصوابية السياسية، وأسطورة أن العالم أسرة واحدة رائعة.
اختيار المكسيك كموطن الأوغاد والأشرار في الفيلم يأتي منسجمًا مع الخلافات الحالية بخصوص أهمية بناء أسوار على الحدود الأمريكية المكسيكية. والشخصيات المكسيكية الوحيدة التي يقدمها الفيلم بصيغة إيجابية هي شخصيات متأمركة الطباع والقناعات وصديقة لرامبو.
هذه رسالة مهمة أخرى. أمريكا اليمينية ليست عنصرية. لا تكره ولا تحارب المهاجرين، طالما التزموا بالقانون وبالعمل الشريف، أما الحثالة فلهم الأسوار لمنعهم من الدخول، أو العصا للعقاب إذا ارتكبوا جرائم داخل أمريكا.
الفيلم مدجج بمعارك دموية جيدة، لكن ينقصه الكثير على صعيد الدراما وتطور الشخصية، ويهدر فرصة مهمة، خصوصًا أن الحبكة الرئيسية تسمح بالكثير والكثير للتوغل في نفسية رامبو، تمامًا كما فعل الفيلم الأول (1982).
رغم هذا يظل عملًا مهمًا في مسيرة رامبو ومسيرة ستالون. وسط هوليوود يسارية معاصرة لا تكف عن مناهضة ترامب، يأتي ستالون ويحافظ على رامبو كما عهدناه منذ طفولتنا.. يميني لا يتزحزح ولا يرضخ للمزايدات!
Green Book.. ما نجح فيه “الكتاب الأخضر” وفشلت فيه السينما المناهضة للعنصرية | حاتم منصور
اعتاد ستالون في أغلب لقاءاته أن ينفي عن نفسه فكرة أنه ينتمي سياسيًا للحزب الجمهوري أو الديمقراطي، أو أنه يرغب في تضمين أفلامه رسائل سياسية، وهو ما أراه شخصيًا مجرد ادعاء دبلوماسي إعلامي.
يمكن نسبيًا أن نشك في صدق النصف الأول من هذا الادعاء، أما النصف الثاني فهو بالتأكيد هراء! رامبو وروكي هما اليمين الأمريكي في أوضح تجلياته، ولهذا ستظل غالبًا وللأبد شخصيات سينمائية خالدة.
لا عجب أيضًا أن Rambo: Last Blood تعرض لهجمات يسارية فورية واتهامات بالعنصرية، وهو في ذلك أسعد حظًا من غيره؛ لأنه يحمل على الأقل مضمونًا يمينيًا واضحًا. الهجمات اليسارية تشمل اليوم غرائب يصعب فهمها.
مخرج فيلم الجوكر تود فيليبس:لدينا الآن يسار متطرف لا يختلف عن اليمين المتطرف ويفعل أى شىء لخدمة أجنداتهعندما عُرض…
Posted by دقائق on Friday, September 27, 2019