مَذنب ضخم يقترب من الأرض، قادر على إفناء البشرية. لكن ناسا ترسل فريقًا لتدميره بزرع متفجرات فيه، وتنجح في إنقاذ الكوكب.
ما سبق كان ملخص حبكة فيلم أرمجدون Armageddon الذي أخرجه مايكل باي، وانتزع قمة الإيرادات عالميًا عام 1998؛ بفضل تركيبة هوليوودية تضمنت أجواء بطولية، وتوابل أكشن ومغامرات، ورومانسية، وإبهارًا بصريًا، وقائمة نجوم يتصدرهم بروس ويليس.
في عيده الـ 20.. كيف احتفظ “الحاسة السادسة” بعنفوانه كل هذه السنوات؟ | حاتم منصور
في 2021، قرر المؤلف والمخرج الأمريكي آدم مكاي أن يلعب على نفس الحبكة، لكن في إطار ساخر ملخصه: ماذا لو كانت البشرية بكل مؤسساتها، من البيت الأبيض إلى البيج تك، أغبى من التصرف بشكل صحيح لإنقاذنا من مذنب عملاق، حتى لو أتيح لهم 6 أشهر كاملة للتصرف؟!
بدأ مكاي مشواره بفضل برنامج SNL الكوميدي الشهير، قبل أن ينتقل للسينما بمجموعة أفلام كوميدية ناجحة تجاريًا، قام ببطولة أغلبها النجم ويل فاريل.
النقلة الكبرى تحققت عام 2015 مع فيلمه The Big Short الذي دارت أحداثه عن أزمة الرهن العقاري الأمريكي، بفضل تركيبة سرد منعشة، تضمنت شرحًا للعديد من المصطلحات الاقتصادية المعقدة، بصياغة محتوى بصري رمزي ساخر، ومونتاج سريع ولاهث.
أهم 7 أفلام وتجارب سينمائية عن أسرار وول ستريت | حاتم منصور
هذا الفيلم يظل أفضل علامة في مشوار مكاي، وبذرة مزايا/ عيوب الفيلمين التاليين له أيضًا؛ بسبب محاولاته لاستنساخ عناصر التركيبة، لأعمال قد لا تتناسب معها للدرجة.
هذه المشكلة ظهرت في فيلمه السابق Vice عندما استدعى بإفراط نفس التعقيد والترميز البصري والمونتاج اللاهث، لعمل لا يحتاجه، فكانت النتيجة أحيانًا مقاطعة غير مطلوبة لأداء تمثيلي ممتاز، قدمه كريستان بيل في الفيلم.
كريستان بيل يخطط للأوسكار ولغزو العراق في Vice | حاتم منصور | دقائق.نت
في لا تنظر إلى أعلى Don’t Look Up العيب أقل وضوحًا، لكنه لا يزال قائمًا. وفي مشاهد عديدة، يغدر المونتاج بمشهد تمثيلي وحواري جيد، بمقاطعة غير ضرورية، تتضمن شرحًا أو ترميزًا بصري لشيء يفهمه المتفرج وسبق ذكره عشرات المرات.
يلعب مكاي ببراعة في الأفلام الثلاثة أيضًا، على وتر النرجسية لدى المتفرج، وبالأخص صاحب القناعات الليبرالية واليسارية، وتتحرك هذه الأفلام في مسار ساخر ملخصه: أنت كمتفرج أذكى بمراحل من رجال الاقتصاد، ومن وزير الدفاع، ومن عمالقة التكنولوجيا، ومن الرئيس الأمريكي نفسه، ولو كنت مكان أي منهم، لتصرفت بشكل أفضل ومنعت كوارث.
تزداد هذه النقطة قوة مع الشكل الكارتوني، الذي يقدمه لأغلب هذه الشخصيات والمؤسسات في أفلامه.
ما يجعل هذه اللعبة في فيلمه هنا أكثر فاعلية، أن الأزمة التي تطرحها الحبكة (مذنب يتجه للأرض) أكثر مباشرة ووضوحًا من المعادلات الاقتصادية والسياسية المعقدة، التي طرحها مكاي في The Big Short – Vice.
Stillwater | يميني – يساري؟ كيف نجح فيلم واحد في إرضاء وإغضاب النوعين؟ | حاتم منصور
الأزمة هنا واضحة، وحلها متوفر بالفعل (تفجير المذنب)، وكل ما ينقص هو إرادة سياسية ومؤسسية لعمل اللازم. وبالتالي، يشعر المتفرج هنا بثقة وأريحية أكبر، في أنه أفضل وأذكى من أصحاب القرار.
حتى عندما يلامس الفيلم الوعى المتدني العام للبشرية، وحس الإنكار للمشاكل السائد، يصوب مكاي سهامه الساخرة على فئات سهلة الاستهداف، مثل المراهقين المهووسين بحياة النجوم والمشاهير، وجمهور برامج التوك شو السطحية.
لكنه لا يلامس بنفس الحدة أي فئات من محاذير الصوابية السياسية، أو أي عنصر حساس قد يجرح كبرياء المتفرج، مثل العقل الديني الذي يطرح دومًا في هذه الأزمات نظريات مؤامرة وتشويشًا وإنكارًا، ويناهض العلم التجريبي أكثر من غيره.
غالبًا يرى مكاي في فيلمه امتدادًا لكلاسيكيات ساخرة وعلامات مهمة للكوميديا السوداء، مثل دكتور سترينجلاف الذي كتبه وأخرجه ستانلي كوبريك عام 1964 ودارت أحداثه عن مخاطر استخدام السلاح النووي فترة الحرب الباردة.
#نتفرج_بعدها_نحكم؟ لسكورسيزي وسبيلبرج وبيكسار رأى آخر | حاتم منصور
لكن الفارق كبير وملحوظ. فيلم كوبريك الجريء يلامس في المتفرج حس المراجعة والتشكك والتفكير. بينما فيلمنا هنا مصنوع بطريقة استعلائية ملخصها (دعني أخبركم بحقيقة العالم لأنني أذكى من باقي الأغبياء – ولأنكم أيضًا أذكى منهم).
يمكن القول أن عرض الفيلم بالتزامن مع أزمة كورونا، كان سلاحًا ذو حدين.
من ناحية، هو تزامن يناسب الجمهور الليبرالي واليساري المستهدف، المقتنع أن ترامب كان سببًا في انتشار الوباء، وأن الرأسمالية العالمية لا تبحث عن حل وعلاج حاسم للفيروس، بقدر ما تبحث عن زيادة أرباحها بتأجيل الحل وبيع الأمصال.. إلخ.
ومن ناحية أخرى، هو تزامن أضر بالفيلم؛ لأن العالم تعامل مع الجائحة بشكل أقل سذاجة وسطحية وأكثر جدية، مقارنة بما يطرحه الفيلم الساخر كمقاربة للواقع.
في جميع الحالات، وبعيدًا عن العوامل السياسية، يمكن تصنيف Don’t Look Up ضمن أهم أفلام العام، بفضل عنصرين.
رغم روح السخرية والكوميديا في الفيلم، يبتعد مكاي أغلب الوقت عن أي أجواء خيالية موجودة في أفلام الكوارث، أو أي أجواء إبهار بصري، ويلامس واقعنا المعاصر في مقاطع وشخصيات كثيرة.
هذه الملامسة قد لا تنجح مع الجمهور عالميًا، لكن كل مشاهد أمريكي تقريبًا سيسهل عليه مثلًا ربط شخصية المذيعة التي تلعب دورها في الفيلم كيت بلانشيت، بمذيعة قناة فوكس الشهيرة ميجان كيلي، على صعيد الهيئة والأداء.
Green Book.. ما نجح فيه “الكتاب الأخضر” وفشلت فيه السينما المناهضة للعنصرية | حاتم منصور
هذا الربط بين الفيلم والواقع، يزيد فعالية الأحداث، ويجعل لعبة (ماذا لو توجه مذنب عملاق للأرض) غير خيالية نهائيًا. هذا فيلم منفصل عن الواقع، بقدر ما هو واقعي في نفس الوقت.
ليوناردو دي كابريو يلمع هنا في دور عالم فلك أكاديمي، يشاء القدر أن يصبح ضمن الفريق الذي يتواصل مع البيت الأبيض، وأن يكون الوجه الأكثر ظهورًا إعلاميًا لشرح أزمة المذنب، دون أن ينجح في المهمتين بالشكل المطلوب، لا بسبب تقصير منه، ولكن لأن كل هذه الجهات لا تتعامل مع العلماء وتحذيراتهم بالجدية المطلوبة.
الشخصية مرسومة ببراعة لتستفيد من بيرسونا دي كابريو كنجم مهذب، مشهور بصفات مثل الوسامة والجاذبية، والاهتمام بالبيئة وقضاياها. وتتلاعب أحيانًا بنقطة جاذبيته بالأخص، لتجعلها بذرة لبعض النكات الجيدة المعاكسة.
سبايدرمان في عوالم سينمائية موازية | دي كابريو و3 أفلام أخرى رفضتها هوليوود | حاتم منصور
هذا واحد من الأدوار، التي تتوقف عندها للتساؤل: من استفاد من الثاني أكثر؟ الممثل أم الفيلم؟
نفس الشيء يمكن قوله عن جينيفر لورانس، التي تلعب دور عالمة شابة زميلة له. يستفيد الفيلم ليس فقط من براعتها وحضورها كممثلة، لكن من هويتها أيضًا كنجمة مشهورة بالمباشرة وحدة الطباع، في التعامل مع الإعلام وسخافاته.
لا يمنح مكاي في المقابل الفرصة لكثير من نجومه، وعلى رأسهم ميريل ستريب، التي تقدم شخصية سينمائية مكررة للرئيس الأمريكي العابث، الذي ينظر لكل الأحداث، من منطلق استفادته الشخصية جماهيريًا وحملاته الانتخابية.
ولآخرين يمنح مكاي فرصة منقوصة، ومنهم مثلًا مارك ريلانس، الذي يلعب هنا شخصية مسلية وغريبة لعملاق تكنولوجيا، على غرار ستيف جوبز وإيلون ماسك، دون أن يستثمر الفيلم هذه الشخصية الغريبة بشكل مبتكر.
أسرار إيلون ماسك | رحلة الطفل البائس إلى عناوين الأخبار وقوائم أثرى الأثرياء | الحكاية في دقائق
ولفريق ثالث، لا توجد فرص أو تحديات تذكر من الأصل، بالنظر لطبيعة الأدوار ومدة ظهورها البسيطة جدًا، وهو ما ينطبق على شخصيات روتينية قدمها ممثلون لهم وزنهم أبرزهم هنا تيموثي شالاميت – روب مورجان.
لكن حتى مع هذه الإشكالية، يخرج الفيلم رابحًا من قائمة نجومه؛ لأن وجودهم وحضورهم يخلق هالة من الأهمية والوزن لهذه الشخصيات، حتى لو كانت لا تستحق الاهتمام للدرجة.
أو كما يقول المثل المصري “يعمل من الفسيخ شربات”. هذا ما يفعله هنا أغلب النجوم، وبالأخص (جوانا هيل – ميريل ستريب – كيت بلانشيت).
الجمهور يفتقد أيضًا منذ فترة تلك الأعمال، التي يمكن بها حشد قائمة نجوم لا تنتهي، في عصر تميل فيه هوليوود ناحية السلاسل السينمائية، والشخصيات الخارقة.
موسم الهجوم على مارفل.. 8 نقاط في صالح سكورسيزي وكوبولا | أمجد جمال
لا تنظر لأعلى Don’t Look Up أبعد ما يكون عن الكمال المنتظر بالنظر لقائمة أبطاله، لكنه يذكرنا بقيمة سينمائية اسمها النجوم. ولهذا، وأيًا كانت عيوبه، فهو فيلم مسلٍ يستحق المشاهدة، وقادر على الثبات في الذاكرة.
على ذكر أفلام الأبطال الخارقين، فمن الجدير بالذكر أن مكاي أضاف للفيلم مشهدين بعد ظهور التترات على طريقة أفلام مارفل، لا ليمهد لأجزاء تالية، لكن ليستكمل الإطار العبثي الساخر.
آدم مكاى يطلق تعويذة سينمائية لا بأس بها، لتحويل أفلام الكوارث الخيالية لشيء أكثر جدية وعبثية في نفس الوقت. النتيجة فيلم غير ساحر، لكن ينقذه تعويذة موازية أطلقها طاقم نجومه، تجعله ضمن أكثر أفلام العام تسلية.