ناقد فني
مع الإعلان عن مسلسل “البحث عن علا” تسرب شعور بخيبة أمل لدى جمهور “عايزة أتجوز” (٢٠١٠)؛ بسبب التغير المفاجئ في الطبقة الاجتماعية للبطلة علا بين المسلسلين: فمن مجتمع الطبقة الوسطى التقليدي لمجتمع الكومباوندات. ومن فتاة ترى الخلاص في مؤسسة الزواج، لسيدة انتعشت بالهروب من نفس الموسسة.
لم يهتم المسلسل بإعطاء تبريرات لذلك التباين الطبقي.. قد تكون صيرورة طبيعية للحياة الاقتصادية، أو نفس الشخصيات في عوالم موازية.
على أي حال، فالأهم من التبرير القصصي هو القراءة الاجتماعية لما بين سطور هذا التغير؛ فالتباين يهمس لنا بأن أشياء مهمة تغيرت في المجتمع نفسه خلال ١٢ عامًا، يجانب تغييرات في صناعة “المحتوى” الدرامي.
لنضع في بالنا معطيات أساسية، هي المد التنويري الذي ألقى ببعض ظلاله على المجتمع بعد ثورات 2011، وانتشار السوشال ميديا، ودخول عصر منصات المشاهدة، ونجاح تجارب المدن الجديدة حول العاصمة.
فيلم ريش | احذر وأنت تصنع فيلمًا فنيًا.. فربما يشاهده الناس! | أمجد جمال
إذن، محاور التغير الثلاثة بالمسلسل: نسوية وطبقية وفنية.
١. نسويًا: يمكنك ملاحظة نسب الطلاق المرتفعة جدًا، وعدد الفتيات اللاتي خلعن الحجاب في محيطك أو تفكرن بالأمر، والفتيات اللاتي استقللن عن أسرهن في سن مبكرة. وكيف تحول التحرش من ظاهرة محاطة بالإنكار والتكتم إلى “قضية” مهمة.
الاستنتاج أن كثيرَا من نساء مجتمعنا ضقن بأبوية الذكر الشرقي. الكون لديهن توقف عن الدوران حول فكرة “الرجل” بشكلها الساذج السطحي التي كانت تتبناه علا نسخة ٢٠١٠.
٢. طبقيًا: جزء كبير من الطبقة الوسطى القديمة ترقى اقتصاديًا. الكومباوندات والمدن الجديدة وحياة المول والجيم وحفلات الباربكيو لم تعد قصرًا على الأثرياء الكلاسيكيين. بل أصول هذا المجتمع المليوني الجديد تعود في معظمها لمن كانوا طبقة وسطى منذ ١٠ أو ٢٠ عامًا.
هذه مسألة يرفض كثيرون الإقرار بها. لكن لا يوجد سبب منطقي آخر يفسر الوجود المادي لهذا المجتمع إلا بأنهم نبت شيطاني أو كائنات فضائية.
٣. فنيًا: بات المحتوى السينمائي والدرامي في الأعوام القليلة الأخيرة أكثر انشغالًا بحكايات الطبقة فوق المتوسطة. وبعكس معظم تاريخنا الفني، نعيش الآن عصر الفن البرجوازي بامتياز. أو لنقل عصر الحكايات غير المنشغلة بالمعاناة الاقتصادية لشخوصها، حتى لو كانوا فقراء نظريًا.
لعل ذلك تكيّفًا مع ميزان القوى الشرائية الجديد من مستهلكي الفنون. سواء عبر اشتراكات المنصات الإلكترونية أو سينمات المالتيبلكس في المولات، والتي تشكل النسبة الأضخم من مجمل الدخل السينمائي.
باختصار، مَن يدفع ليشتري الفن بات يحدد نوع الفن.
رسالة إلى داود عبد السيد | هل المشكلة في الجمهور فعلا؟ | أمجد جمال
مسلسل “البحث عن علا” من تأليف غادة عبد العال ومها الوزير. ومن إخراج هادي الباجوري، ويعتبر الإنتاج الدرامي الثاني لعمل مصري تحت مظلة نتفليكس.
العنوان الأصلي كان “عايزة أتطلق”، وتغير لعنوان ثان يحجّم التواصل بين العمل القديم والحديث، ويكون أكثر ملاءمة ومباشرة في التعبير عن الأحداث الجديدة التي تدور حول إعادة اكتشاف علا، سيدة المنزل التي أوشكت على بلوغ الأربعين، ولديها طفلان في المدرسة، وأم مستسلمة للتقاليد، وزوج يطلب الانفصال لمروره بأزمة منتصف العمر.
ينتمي المسلسل لتيمة إعادة اكتشاف الذات.
أجمل ما في هذه التيمة الدرامية – وهي سر نجاح المسلسل – أنها تورطك مع نزوات أبطالها وهم يخرجون للعالم ويخوضون تجارب جذابة جدًا، بعد تعرضهم لخسارة حياتية ما.
أذكر من نفس التيمة أفلام “الناظر”، و The Bucket List و American Beauty.. وصولا لمسلسل “ليه لأ؟”، والأخير تحديدًا وثيق الصلة بمسلسل البحث عن علا، بكلمات أخرى ينتمي المسلسلان لنفس الموجة الدرامية النسوية الجديدة:
امرأة تخرج من دائرة المجتمع التقليدي لتفعل أشياء يريد الجمهور – وربما المؤلفون – أن يفعلوها، لكنهم غير مستعدين للمخاطرة، أو … ليسوا أثرياء بما يكفي؟
علا تتجاوز تجربة الانفصال عن طريق الانغماس في فانتزمات العصر، والتي تبدأ عادة من الكوافير والانتظام في الجيم، فالسهر في البارات، وممارسة الرقص الشرقي، ثم رحلات السفاري والتخييم، يتخللها علاقات غزلية مع رجال جدد، وقبل كل شيء تأسيس بيزنس جديد خاص لتكون علا من رائدات الأعمال. باختصار حياة مبهرة.
مدرسة الروابي للبنات | دراما مدرسية من خارج “المُقرر” | أمجد جمال
أصحاب ولا أعز | لماذا ستضاعف نتفليكس الإنتاجات المشابهة رغم “الغضب الشعبي”؟ | أمجد جمال
ما سبق ليس عيبًا جوهريا في مسلسل البحث عن علا أو الشخصية، لكن لدي تحفظين هامشيين:
أولًا: في هذه الأعمال، هناك إيحاء متواصل بأن البطلات بصدد خيارات مجانية: مسألة مفاضلة بين مسارات الحياة المختلفة لا أكثر، وأنهن أنجزن نجاحًا باختيار القرارات الأفضل لحياتهن.
ذلك مع تجاهل لعنصر الأمان الاقتصادي والمزايا الحيايتية التي تحمي ظهورهن من مخاطرة حقيقية، بخلاف التيار العام من النساء. تلك أمور تنتقص بعض الشيء مما يُباع لنا باعتباره تمردا واستقلالية نسائية صافية.
ثانيًا: تطور الشخصية يعتبر من السمات الأساسية في تيمة اكتشاف الذات. لا يجب أن تنتهي الشخصية من النقطة التي بدأت منها. المشكلة عند علا ليست نقطة النهاية بل البداية، هناك ١٢ عامًا سقطت من حياة هذه السيدة، لا نعرف كيف كانت فيهم، وجاء التباين بين علا (عايزة أتجوز) وعلا (نتفليكس) دون وصل وشرح واضح ليفاقم تجهيل تاريخ تلك الشخصية.
حاول أن تلتقط تلك الأشياء بين سطور الحوار مثلًا، ستجد الحيرة تتضاعف. لسان الشخصية مفترض به أن يكشف بعض تاريخها: قيمها، ثقافتها، تربيتها.
نرى علا تجد صعوبة في فهم مصطلحات إنجليزية متداولة بكثرة في المجتمع الذي تعيش فيه كل تلك السنين مثل “توكسيك” و”باكيت ليست”، لكن في مواقف أخرى نسمعها تقول “أوكوارد” و”باكباكرز” و”ميكسد سيجنالز”… إلخ.
قد تكون تفصيلة هامشية، لكن هذا التناقض استدعى انتباهي أثناء المشاهدة، ربما أبالغ، وربما كاتبات السيناريو لسن متأكدات مَن هي علا؟ لم تصنعن لها دراسة شخصية. أتساءل: هل علا موجودة أصلًا أم alter ego للكاتبات والجمهور المستهدف؟
لم أشعر أن علا نفسها مهمة، بقدر أهمية مغامرات الرقص الشرقي ورحلات السفاري، الذين كانوا رشوة هروبية ذات قيمة ترفيهية لنتغاضى عن كثير من عيوب الكتابة.
مسلسل الجسر | أين تفوق على مسلسل “النهاية” وأين خيب التوقعات؟ | أمجد جمال
لكن، ما عجزت عن التغاضي عنه هو ضعف عنصر الحوار.
الشخصيات تتحدث أكثر مما تفعل. ورغم ذلك/ معظم الجمل مستهلكة ومباشرة وتفصح عن دواخل الشخصيات بشكل مجاني.
الأسوأ أن كل المواجهات الدرامية لا تجد وسائل أخرى للعرض إلا بالمكاشفات الحوارية لا بالمواقف:
تحاول علا إنهاء علاقتها بآدم بسبب فارق السن، فتقول له ذلك مباشرة: أنا عمري كذا وأنت عمرك كذا.
ولمزيد من الشرح، تختبر معرفته بالمطرب علاء عبد الخالق بسؤال مباشر. فيجيب بأنه لا يعرفه، إذن هي على حق، وليس بينهما مرجعية مشتركة.
أجد أن هذه طريقة بليدة من الكتابة لأنها غير مدعومة بموقف ومقتصرة على الكلام.
في أحد المواقف تقول إحدى الشخصيات ما معناه: الراجل من حقه يرافق واحدة أصغر منه، لكن الست لو عملتها يقولوا عليها متصابية. تلك المفارقة كانت واضحة بالفعل خلال الأحداث، لكن ما الحاجة لإعادتها بجملة خطابية من هذا النوع؟
علا في مركب في النيل، يسألها المراكبي “نازلة ولا هتكملي؟” ترد “هكمل .. هكمل .. هكمل”.
تكرر نفس الكلمة ثلاث مرات بكل الوسائل والانفعالات وبشكل مسرحي كي نتأكد أن الكلمة مقصود بها تورية عن حياتها،
حتى في اللجوء النادر جدًا للتوريات، اضطررنا لإلقاء التورية بهذا الشكل المزعج، وكأن المتفرج غبي لدرجة لم يكن ليفهم لو قالت الكلمة مرة وحيدة.
الجانب الوحيد الذي تفوق فيه الحوار، كان كسر الحائط الرابع، حين تنظر الشخصية للكاميرا وتخاطبنا مباشرة.
تلك الأداة التي بدأت من “عايزة أتجوز” تطورت كثيرًا في “البحث عن علا”. فلم تعد تستخدم من أجل سكب المعلومات، ولكن لإضافة أبعاد جديدة ومرحة للمواقف. لدرجة ستجد بعض المتحمسين يشبهونه بالمسلسل البريطاني الشهير Fleabag.
لعبة نيوتن | غاب نيوتن وحضرت اللعبة .. غابت المثالية وحضرت الجاذبية | أمجد جمال
بدا أن الباجوري كان أكثر انشغالا بالأمور البصرية، وأجاد فيها كالعادة بتقديم صورة رقيقة لعالم مُحكم في أبعاده بعدسة مازن المتجول، والإشراف على شريط صوت متماش مع الفورمات العالمي من المسلسلات الحديثة؛ بمساعدة موسيقى خالد الكمار، واختيار أغاني خارجية بتوظيف جيد وجديد على الدراما المصرية.
بذلت هند صبري مجهودًا تمثيليًا مضاعفًا لسد الكثير من فجوات الكتابة، وبصفة عامة جاء أداؤها أفضل كثيرًا من “عايزة أتجوز”، وابتعد هذه المرة عن الاستظراف والمبالغة.
كذلك أضاف كل ضيوف الشرف للحلقات وبخاصة خالد النبوي. فيما فضّل (هاني عادل) الظهور بشبح الشخصية لا الشخصية نفسها، وقد يجدها البعض ميزة تلائم الدور.
حتى الأطفال مثلوا بشكل مقنع جدًا.
شخصيتا الصديقة نسرين (ندى موسى) ومعتصم (محمود الليثي) كانا يستحقان خطوطًا درامية أكثر اكتمالًا، ووقتًا أكبر على الشاشة، لكنهما ظُلما بتوظيفهما كديكور في حياة البطلة، أو عرائس كي تفضفض لهم.
ختامًا، هناك شيء مؤكد، لو لم يعجبك المسلسل، ستعجبك الحياة داخل المسلسل.