رب أسرة يخفي ماضيه الدموي عن أبنائه، ويعيش حياة عادية كمجرد موظف نكرة أو Nobody بالمصطلح الأمريكي، إلى أن تفرض عليه المستجدات خوض حرب كبرى، تحتاج منه العودة إلى الشراسة والعنف تمامًا كما عاش بهما شبابه.
الحبكة السابقة ليست جديدة كفكرة. لكنها في فيلم Nobody في أفضل حالاتها. ليس فقط بفضل مستوى الإجادة في تنفيذ مشاهد الأكشن، لكن لأن الفيلم يمنحنا ما يندر أن نراه في هذا النوع من الأفلام:
تحذير: هذه المراجعة النقدية تحتوي على حرق لكثير من الأحداث
منذ بداية الأحداث، وبفضل مونتاج سريع ولمسات خاطفة في السيناريو، نرى البطل كمجرد ظل رجل، لا يلقى الاحترام والتقدير اللائقين وسط أفراد أسرته، باستثناء الابنة الصغرى.
CODA | أن تسمع بقلبك حكاية أسرة من الصم والبكم | حاتم منصور
ابنه الأكبر لا يراه قدوة ولا يهتم به. زوجته لا ترغب في ممارسة الجنس معه، وتنسى أن تترك له حتى بعض القهوة على الإفطار، في إشارة سينمائية تعني أنها نسبت وجوده، حتى وهو جالس على نفس المائدة.
في المواجهة الأولى التي تستدعي منه ممارسة العنف ضد لصوص، يختار البطل أن لا يفعل ذلك، ويتقبل ضريبة قراره سواء كانت المهانة أكثر وأكثر أمام أسرته، أو مشاهدة لص وهو يوجه لكمة للإبن.
ما يجعل البطل يغير رأيه في اليوم التالي، هو مجرد سوار رخيص تحبه ابنته، سرقه اللصوص دون علمه!
التناقض بين الموقفين يخبرنا بالكثير عن نفسية الرجال، وإحساسهم الأكبر بالمسؤولية ناحية النساء. البطل تقبل لابنه الإصابة؛ لأن هذا ضرر يجب أن يتحمله الابن كذكر. لكنه كأب لم يستطع أن يتقبل كسر خاطر ابنته.
نظرة جريئة وصادمة للأمومة والإنجاب في Tully
في الجولة الثانية للبطل مع العنف، تصبح نزعة حماية الإناث أكثر وضوحًا، لأنها جولة لحماية فتاة شابة من الاغتصاب.
هذه النقلة الذكية في السيناريو، لنقل رغبة البطل في ممارسة العنف من خانة تحتمل الإدانة والتشكيك والرفض، إلى خانة يصبح فيها هذا العنف مبررًا ومطلوبًا وفعلًا أخلاقيًا، تتلاحم مع أسئلة مهمة في حاضرنا الثقافي والاجتماعي.
أسئلة مثل:
هل إدانة نزعات القتال والرياضات العنيفة، وإخراسها عند الأطفال الذكور تربويًا في المدارس وخلافه، كما يحدث في الغرب حاليًا بفضل ضغوط اليسار، إجراء سيثمر فعلًا عن عالم أكثر أمانًا؟ أم أنه سينتهي بذكور ناعمين غير قادرين على حماية أنفسهم أو عائلاتهم، مقابل فئات إجرامية ومعتدية، ستستفيد من غياب نموذج الذكر القادر على ردع العنف بالعنف؟
أهم 10 أفلام عن الاغتصاب والتحرش والجرائم الجنسية | حاتم منصور
هل الخطاب الإعلامي المعاصر الذي يسلط الضوء على قضايا مثل التنمر في المدارس وخلافه، يخلق مجتمعًا أفضل؟ أم أنه بدون قصد يقتل في الأطفال والمراهقين حس المواجهة، ويؤسس فيهم نقاط ضعف وهشاشة، ستصبح مصدر ضرر لاحقًا، عندما يصطدم المرء بعالم غير مثالي، لا وجود فيه لناظر مدرسة مختص باستقبال الشكاوى وتوبيخ كل طالب معتدٍ؟
مدرسة الروابي للبنات | دراما مدرسية من خارج “المُقرر” | أمجد جمال
هل استمتاع البطل بممارسة العنف للدفاع عن حياته أو حياة أسرته، ضد أوغاد ومغتصبين ومتحرشين ولصوص، يندرج أيضًا تحت بند “الذكورية السامة” في التصنيفات النسوية، أم لا؟
كلها أسئلة تستحق وقفة اليوم، لأنها ستحدد الكثير والكثير في الغد.
هذا السؤال يسمعه البطل أكثر من مرة من والده العجوز، لكنه أيضًا سؤال قد يكون موجهًا لكل الرجال، على ضوء تحول الصفات والسلوكيات الذكورية التي كانت بطولية في عصر أجدادنا، إلى صفات سلبية ومرفوضة في حاضرنا.
ولأن الماضي محور اللعبة، لا عجب أن الفيلم اختار الروس دون غيرهم، كأعداء لبطلنا الأمريكي، وأن الفيلم صاغهم جميعًا في إطار ذكوري صلب قاسٍ، أقرب لأفلام الثمانينيات ولخصوم روكي ورامبو!
كيف أصبح رامبو أيقونة لليمين الأمريكي على مدار 40 سنة؟ | حاتم منصور
الأهم دراميًا أن عودة البطل للعنف وللتصالح مع ماضيه، ستصبح الحل الذي يعيد إليه كل ما يفتقده، ابتداء من ثقته في نفسه، مرورًا باحترام ابنه له، ووصولًا حتى إلى عودة الأشواق الجنسية للزوجة!
الرسالة إذًن واضحة حتى لو كانت غير مباشرة: جزء من رجولتك واحترام أسرتك لك، مرتبط بعزيمتك وعنفوانك في مواجهة الذكور الآخرين.
السيناريو كتبه ديريك كولستاد. وهو نفسه مؤلف سلسلة جون ويك، التي قام ببطولتها كيانو ريفز، وتحمل نقاط مشتركة عديدة مع فيلمنا هنا.
5 أسباب جعلت “جون ويك” علامة في تاريخ الأكشن | حاتم منصور
كلاهما عن بطل يعود لعالم القتال والعنف مضطرًا، بسبب اعتداء يتعرض له. كلاهما يندرج بصريًا كأكشن تحت تصنيف جان فو Gun fu الذي تتلاحم فيه رياضات القتال اليدوي الآسيوية، بعالم المسدسات.
كلاهما يوظف أحيانًا الأغاني، كبديل عن الموسيقى التصويرية.
كلاهما أيضًا من فريق منتجين واحد، ويسهل ملاحظة المقاربة المتعمدة تسويقيًا في الملصقات الدعائية (وجة البطل مليء بالجراح وهو محاصر بقبضات يد/ مسدسات).
لكن في الوقت الذي تتحرك فيه سلسلة جون ويك بمنهج استعراضي نسبيًا، وبمعايير إنتاجية فخمة تتضاعف من جزء لجزء، وبنجم له تاريخه الطويل في عالم الأكشن، يفاجئنا Nobody ومخرجه إيليا نيشولر، باختيارات منعشة نسبيًا.
The Matrix | صحوة الماتريكس.. هل نحتاج فعلًا لجزء رابع؟ | حاتم منصور
على رأسها الممثل بوب أودينكيرك في دور البطولة، وهو نجم كوميديا بالأساس.
جسده الضئيل وعمره الذي يناهز الستين، يجعله مناسب شكلًا لدور رب الأسرة العادي. في المقابل سيفاجئك في مشاهد القتال، بفضل تدريباته المكثفة على مدار عام قبل التصوير، للوصول للياقة بدنية وقتالية، تسمح له بتنفيذ هذا النوع من الأكشن.
ما سبق ضمن أشعار أغنية المطرب لوثر أليسون Life Is a Bitch التي اختارها صناع الفيلم للمشهد الذي يقرر فيه البطل العودة للعنف، بعد هدنة طويلة.
قد تساند البطل في قرار العودة أو ترفضه، وقد تختلف معاييرك عنه بخصوص شرعنة العنف. لكن على الأقل، يمكننا أن نتفق أن العالم سيظل مليئًا بالأوغاد، وأبعد ما يكون عن اليوتوبيا، وأن الحياة ستطل عليك أحيانًا بوجهها القذر المؤذي كما يتردد في الأغنية.
السؤال فقط: هل ستواجهها كشخص صلب، أم كنكرة؟
سواء شاهدت Nobody كمجرد أكشن سريع وجنوني، مدته ساعة ونصف، ببطل مختلف عن السائد، أو انشغلت ببعض احالاته وأسئلته الفلسفية عن العنف الذكوري، يصعب تصنيف هذا الفيلم الهام والممتع كـ “نكرة” في موسم 2021.