الشكل المخزي الذي انسحبت به الولايات المتحدة من أفغانستان حاز اهتمام الإعلام. وهو فعلا مشكلة كبرى. لم يقصر الإعلام في تفصيلها. لكنها في واقع الأمر تخفي المشكلة الأكبر والأضخم والأخطر.
هي سياسة الدول الكبرى والصغرى مع الجماعات الجهادية. السياسة المقصود تبنيها والمقصود إدانتها في الوقت نفسه. سأقدم مقارنة بسيطة تشرح ما أعني.
في الثمانينيات، اعتمدت الولايات المتحدة على المجاهدين. قُدِّموا في الإعلام على أنهم مدافعون عن حرية بلادهم، ولا خطر منهم.
جرى ما جرى. وصرنا الآن نشير إلى تلك السياسة على أنها علامة فشل كبرى. لماذا؟ لأن هؤلاء المجاهدين كانوا ميدان تدريب لإرهابيي المستقبل. هذه جريمتهم. أما هم أنفسهم فلم يتورطوا في جرائم خارج حدودهم. كما أنهم كانوا متنوعين عرقيا بتنوع أفغانستان، مما أحدث توازنا داخليا. وفي النهاية سقطوا أمام طالبان سريعا.
طالبان على الجهة الأخرى استلمت الراية منذ عام ١٩٩٦. فاستضافت نشأة تنظيم القاعدة في ١٩٩٨. وفتحت له البلاد يدرب إرهابيين ويصدرهم. وشنت على الأقليات حربا مستمرة.
فجرت داخل أفغانستان تمثالين أثريين يمثلان رمزين لديانة أخرى كبيرة، بينما انطلقت القاعدة تشن عملياتها حتى كللتها بهجوم إرهابي على رمزين آخرين، في أمريكا هذه المرة، مع ثلاثة آلاف قتيل من المدنيين. في أبشع عملية إرهابية في التاريخ المعاصر.
المفترض إذن من المقارنة، ومن الدروس التي يقول العالم إنه تعلمها، أن تكون طالبان أخطر من المجاهدين. وأن يكون جرم “تمكين” طالبان، أشد من جرم تمكين المجاهدين. أليس كذلك؟ بلى بالتأكيد.
فلماذا إذن تمكين طالبان؟
طالبان 2.0 | من هم؟ من يقودهم؟ وكيف سيحكمون أفغانستان؟ | س/ج في دقائق
هنا نصل إلى النقطة المحورية في المقال.
ببساطة. لأن هذا هو الحادث دوما. ما نراه بأعيننا الآن ليس إلا رش البودرة على الحبر السري المكتوبة به السياسات. ما نراه الآن هو السياسات الحقيقية، المقصودة، المتعمدة، المتكررة، التي يساهم في تمريرها لدى الرأي العام الإعلام المقرب من دوائر السياسة، والتي سيعود بعد عشر سنوات لينتقدها. مافيش مشكلة.
هل أعني بهذا تفكيرا تآمريا؟
لا. أنا أتكلم عن خيارات سياسية لها منطق يغلب المنطق الآخر الذي يحلم به الحالمون. المنطق يقول إن بعض المهام من القذارة وانعدام العائد بحيث من الأفضل تكليف الإسلامجية بها.
يستفيد صاحب التكليف – الغرب – إراحة دماغه من الخوض في المستنقع.
ويستفيد متسلم التكليف – الإسلامجية – التمكين، فوق رؤوس الغلابة والمساكين و”البشر الدون” – سامحوني في التعبير. هذه هي الحقيقة كما تطرح على موائد السياسيين، ليس كما تقرأها في الإعلام. لا أقولها استنكارا. أقولها سردا لحقيقة لا ينطق بها صراحة. ولو كنت مكان الغرب لفعلت مثلهم. أنا هوجع دماغي ليه مع ناس غاوية؟!!
الانسحاب الأمريكي من أفغانستان | هل يعيد جو بايدن إحياء تنظيم القاعدة؟ | س/ج في دقائق
لإسلامجية يروجون لأنفسهم في دوائر السياسة بقدرتهم على شيل الشيلة وحمل الحمولة. في أفغانستان ستجد أن تركيا وقطر هما المضطلعان الأكبر بدعم طالبان، والوعد بمساعدة أفغانستان. ونحن نعرف التاريخ القريب لهاتين الدولتين في رعاية “الإسلام المعتدل” وتابعه الإرهابي.
لكن قطر وتركيا ليستا أكثر من مستفيدتين حديثتين بسياسة طالما روج الإخوان المسلمون لأنفسهم في أوروبا بأنهم القادرون على الاضطلاع بها، وصولا إلى ٢٠١١ والربيع “التركي”.
مصادر تمويل طالبان | الأفيون أحد 5 كنوز تمنح “المجاهدين” 1.6 مليار دولار سنويًا | قوائم في دقائق
بهذه الصفقة اقتربوا من دوائر صنع القرار أكثر من حكومات دول.
هذه هي الصفقة التي يصفها رجل الشارع العادي، بصياغة بسيطة، بأن الإسلامجية عملاء للمخابرات الغربية. هم ليسوا عملاء للمخابرات الغربية. هم عملاء لأنفسهم. لكنهم استطاعوا أن يقنعوا دوائر السياسة الغربية بأن لهم نفعا. نفعا يتعاظم بوجود إرهاب أعنف، دائما، على يمينهم ويسارهم. إذ بدونه تنتفي المهمة.
المشكلة أن الحكومات في منطقتنا تعينهم على إتمام الصفقة. حين تستضيف “الوجه المعتدل” في التليفزيون، حين تزيد أهميته بإرساله كشخص مؤثر ليحاضر في مؤسسات. فتصل الرسالة إلى المواطنين العاديين بأنه شخص يستحق التأييد.
ما يحدث في أفغانستان – من فضلك – مهم جدا. ليس بسبب الانسحاب المضطرب. هذه مشكلة دول بعيدة. بعد شهرين سينسونها. وهي موضوع مفيد يلوكه الإعلام ويوجه اهتمامنا إليه. مهم جدا لأنه يقدم لك فرصة “نادرة” لكي ترى السياسة وهي تصنع أمام عينيك.