هل انتخبتَ ترامب؟ السؤال كان ضمن الأسئلة الموجهة لبطل فيلم ستيلووتر Stillwater عبر الأحداث. ويسهل في المشهد استنتاج غرض السائل الفعلي، ومعرفة أن الترجمة الأدق للسؤال في عقله هى: هل أنت همجي شرير أمريكي؟
تأثير ترامب العابر للحدود في Sicario Day of the Soldado
بيل بيكر بطل الفيلم، الذي يلعب دوره مات ديمون، مواطن أمريكي من فئة العمال. بعد افتتاحية سريعة نعرف أن ميوله مُحافِظة يمينية، وأنه سيبدأ رحلة مُكرّرة وروتينية لفرنسا، وتحديدًا إلى مدينة مارسيليا، لزيارة ابنته المحبوسة منذ سنوات، والمُدانة ظلمًا بتهمة قتل زميلتها الجامعية.
لكن الزيارة هذه المرة مختلفة، لظهور طرف خيط يمكن أن يثبت براءتها. وعليه الآن معالجة الأمر بنفسه، لأن محامية ابنته والقضاء الفرنسي، لا يريان في الأمر جديدًا يستحقُّ إعادة فتح القضية.
الموجز السابق قد يوحي بفيلم أكشن بوليسي آخر، من النوع الذي يقوم ببطولته نجوم من نوعية بروس ويليس وميل جيبسون وليام نيسون. لكن ستيلووتر في الحقيقة فيلم دراما بالأساس، مهمته تشريح بطله نفسيًا، وأقرب للتصنيف لنوعية أفلام دراسة الشخصية (character study).
بالتوازي، يُلامس الفيلم أيضًا ملفات سياسية واجتماعية ساخنة في عالمنا المعاصر، مثل تأثير المهاجرين على أوروبا، والتمييز العنصري، والإعلام اليساري المهووس بالصوابية السياسية، والصورة النمطية (ستيريو تايب) التي نخطىء كلنا بسببها في إطلاق أحكام سريعة على البشر.
علاء الدين بين زمنين.. ربع قرن من الصوابية السياسية | مينا منير
إجمالاً، يمكن القول إن ستيلووتر من حيث الإيقاع والعناصر الفنية، مزج متوازن بين السينما الأوروبية التي ترتكز أكثر عادة على الشخصيات، وبين السينما الأمريكية التي تميل للتشويق والصراعات الساخنة.
يمكن ملاحظة النزعة الأوروبية أيضًا، في طريقة استخدام الكاميرا المحمولة التي تتابع البطل في الشوارع والمشاهد الخارجية، وهو الأسلوب الذي يتبعه صناع سينما أوروبيون، أشهرهم الأخوَان البلجيكيّان داردين.
الجانب الأكثر طرافة المتعلق بالفيلم ربما، هو قابليته لتعدد القراءات. ولهذا حقّق ستيلووتر ما يُعتبر مستحيلاً حاليًا، ونجح في إرضاء وإغضاب الأقلام اليمينية واليسارية على السواء وبنفس القدر!
البعض رأى فيه فيلمًا يساري النزعة يُهاجم القيم الأمريكية المُحافِظة، ويُقدّم صورة سلبية للشخصيات الأمريكية، مقارنة بالشخصيات الفرنسية الأقرب للتحضر والمبادىء والقيم المثالية.
هذه رؤية تتوافق بالتأكيد مع الطباع اليسارية لصناع الفيلم، ابتداء بمؤلفه ومخرجه توم مكارثي صاحب فيلم سبوتلايت الفائز بالأوسكار في موسم 2015، وانتهاء ببطله مات ديمون.
رحلة الـ 13 عامًا.. كيف تسلل اليسار إلى حزب الديمقراط ؟| س/ج في دقائق
والبعض رأى فيه فيلمًا شجاعًا بمعايير هوليوود الحالية، يُقدِّم شخصية اليميني الأمريكي المُحافِظ، في إطار إنساني يدعو للتعاطف، وهى مسألة تغضب اليسار العالمي، المصمم على شيطنة هذه الشخصيات لأقصى درجة.
لعل هذه هى النقطة الأهم في ستيلووتر فلسفيًا. عندما نصل لنهايته سنعرف مدى عبثية وسطحية استخدام سؤال “هل انتخبت ترامب؟” كوسيلة لفرز البشر وتقسيمهم إلى (ملائكة/شياطين – أبيض/أسود – خير/شر).
أيًّا كانت نوايا صناع الفيلم، وبعيدًا عن صراعات ومهاترات السياسة، فالنقطة الأهم على المستوى الفني التي سيتفق الغالبية بخصوصها، هى أداء مات ديمون.
أغلب الأحداث نتابع بطلًا قليل الكلام، لا يرغب في إظهار أي مشاعر، ولا يتواصل اجتماعيًا بشكل جيد مع مَن حوله، لكن القصة في النهاية عن شخص يتغيّر ويُعاني ويتفاعل مع ما يحدث.
مالكوم وماري | كثير من الجنس في حكاية عن تعقيدات العلاقات الزوجية | أمجد جمال
مهمة ديمون هنا كممثل مزدوجة ومعقدة: أن يقنعنا أنه لا يظهر شيئًا يُذكر لباقي شخصيات الفيلم، وأن يلمس في نفس الوقت بأقل اللمسات والتعبيرات الممكنة عواطفنا كمتفرجين، ويجعلنا تدريجيًا نزداد فهمًا للشخصية.
سنعرف لاحقًا هل سينال التقدير اللازم، وينضمُّ لترشيحات سباق الأوسكار القادم كأفضل ممثل أم لا، لكن الدور بالتأكيد من أفضل أدواره، وعلامة أخرى على وصوله لدرجة نضج فني تستحقُّ الإشادة، بعد أدوار مهمة أخرى في السنوات الأخيرة كان أشهرها فورد ضد فيراري.
Ford v Ferrari.. كريستان بيل ومات ديمون يتسابقان إلى الأوسكار | ريفيو | حاتم منصور
نفس الإشادة تستحقها، أيضًا، بطلتا الفيلم الأقل شهرة (أبيجيل بريسلين – كاميل كوتان). ومعهما الموسيقار مايكل دانا الذي أضاف بمقطوعاته حيوية لأكثر المشاهد روتينية.
بقى أن أذكر أن Stillwater هو اسم مدينة أمريكية في ولاية أوكلاهوما (موطن بطل الفيلم). وأن استخدام اسمها كعنوان، يعكس دلالة متعلقة بمعناه (مياه راكدة)؛ كإشارة إلى أن بعض الطباع يصعب تغييرها.
مزج سينمائي متوازن بين الطابع التشويقي وأفلام دراسة الشخصية، ارتفعت أسهمه أكثر وأكثر بفضل أداء مُوفَّق من مات ديمون، يستحقُّ الرصد على رادار الأوسكار القادم، ويجعل الفيلم من علامات 2021 التي تستوجب المشاهدة.