العالم يتغير سريعًا. وتمامًا مثلما غير الإنترنت ومشتقاته مثل مواقع السوشال ميديا، الكثير في حياتنا ووظائفنا، وتركوا بصمة في اختياراتنا وميولنا ونظرتنا للعالم، يمكن القول أن نفس الشيء حدث بخصوص علاقتنا بالأفلام والمسلسلات.
عالميًا، نقطة التأثير الأكبر كانت عالم المنصات واليوتيوب، بكل ما تتيحه من مرونة للمتفرج في اختيار توقيت المشاهدة، وزيادة مهولة في حجم المحتوى المتاح، على عكس عصر القنوات التليفزيونية المحدودة. ضغطة “كليك” واحدة هي كل ما يفصلك حاليًا عن آلاف الأفلام والمسلسلات.
قاعات السينما أم المشاهدة المنزلية؟ 5 فروق رئيسية قد تحدد مستقبل قاعات العرض | حاتم منصور
بسبب ذلك، لم نعد نشاهد نفس الاختيارات في نفس التوقيت، وهي تجربة سيذكرها كل من عاصر التسعينيات وما قبلها. تسهر لمشاهدة شيء ما على التلفاز، وفي اليوم التالي تشارك انطباعاتك مع زملائك في الفصل، الذين شاهدوا نفس ما شاهدت.
يفرض رمضان نفسه على العصر الحالي، ويعيد نقطة التوقيت المشترك للمشاهدة، ويخلق معادلة غريبة لا مثيل لها عالميًا: تواجد يومي على مدار شهر كامل لأفراد الأسرة كلها، في موعد ثابت من أجل تناول الإفطار، ثم تخمة جماعية، تجعل النشاط الأسهل المتاح هو التلفزيون.
لكن في المقابل، ظهر لاعب جديد مهم وهو السوشال ميديا. لم نعد نتابع المسلسلات والبرامج التليفزيونية فقط في رمضان، لكننا نتابع أيضًا وبنفس الانتظام مواقع السوشال ميديا.
ريموت في يد، وموبيل في الأخرى، ومُتلقٍ يستهلك من هذا وذاك، هذا هو حال الملايين منا.
كيف غير ذلك طريقة تفاعلنا؟
5 نقاط من وحى مسلسلات رمضان 2023 قد توجز الإجابة.
قبل رمضان بأيام، تطاردك الأخبار عن المسلسلات والبرامج، ويبدأ ماراثون الدعاية والتسويق عن طريق النجوم والجهات المنتجة، ويبدأ معه أيضًا ردود الفعل الفورية على السوشال ميديا.
بدأ النجم أحمد العوضي مبكرًا منشوراته لتسويق مسلسله “ضرب نار” لكن التركيز على نقطة القوة الجسمانية للبطل، وفكرة استخدام صقر للدعاية، ومحاولة اللعب على أوتار دينية بجملة “صعايدة يا رسول الله” – وهي جملة مقتبسة من أغنية – لم تكن تركيبة موفقة بالنسبة لكثيرين.
سريعًا، جاء المردود العكسي على السوشال ميديا، وظهرت منشورات للسخرية من العمل والنجم نفسه، ليتعرض “ضرب نار” لأول ضرب نار ودفعة رصاصات قبل رمضان، ويصبح العمل ككل تحت الحصار باعتباره (المسلسل المبتذل الذي لا يستحق الاهتمام والمشاهدة).
الموقف ككل يمكن استخلاص درس مهم منه، وهو أن تكثيف استخدام السوشال ميديا للتسويق لمسلسل أو فيلم، يمكن أن ينتج عنه نتائج عكسية إذا لعبت أوراقك بشكل خطأ.
ويفتح الباب أيضًا لأسئلة أخرى مهمة: هل يمكن ذبح عمل عمدًا عن طريق السوشال ميديا، باصطياد عناصر يمكن السخرية منها والتركيز عليها؟
موقف مختلف تعرض له مسلسل “سره الباتع” مبكرًا، وتحديدًا بعد الحلقة الثانية، بسبب مشهد يظهر فيه أحد جنود المماليك، وهو يرتدي حذاءً رياضيًا حديثًا، وهو ما أثار جدلًا واسعًا وسخرية.
كثيرون لم يلاحظوا الخطأ أثناء المشاهدة، لكن السوشال ميديا كانت كافية للتركيز عليه، ولجرجرة المواقع الخبرية لتغطيته.
بالتأكيد لو كنا لا نزال في التسعينيات، لسارت الأمور دون أن يدري أحد شيئًا. والطريف أن هذا الخطأ هو أهون عيوب هذا المسلسل الرديء.
كانت هذه ضربة قاضية مبكرة جدًا لـ “سره الباتع”. توالت أهداف السوشال ميديا بعدها في مرمى خالد يوسف، بسبب مشاهد أخرى صُنفت كتسليع لممثلة جنسيَا، وكابتذال بصري لا داعي له، ليخرج المسلسل من سباق المنافسة مبكرًا.
وتمامًا كما بدأ خالد يوسف مشواره للشهرة في مطلع الألفية، بفضل مبالغات إعلامية لتيارات اليسار المصري، التي ساهمت في تلميعه كما لو كان مؤلف ومخرج مبدع فنيًا، لا لشيء إلا لأنه يضع على الشاشات نفس الضحالة الفكرية الموجودة في مقالات اليساريين والناصريين، انتهى الحال بخالد يوسف في رمضان 2023 وهو يتذوق أخيرًا بفضل السوشال ميديا، الطعم الآخر المُر، لتأثير الإعلام والبروباجندا.
مع زيادة عدد المسلسلات المتعلقة بقضايا المرأة والمجتمع، وتصاعد الخطاب على السوشال ميديا بخصوص أهمية تعديل القوانين والتشريعات، امتزجت هذه المسلسلات بالقضية التى تناقشها، ليصبح كلاهما واحد وبنفس القيمة والقدسية بالنسبة للبعض.
بسبب هذا، منحت السوشال ميديا هذا النوع من المسلسلات حصانة، وأصبح أي نقد أو انتقاص من عناصر فنية في هذه الأعمال، غير مقبول نهائيًا من وجهة نظر كثيرين، وواجب التصنيف فورًا باعتباره هجوم ذكوري قذر لا يعترف بحقوق النساء، ويُنكر معاناة المرأة في مجتمعاتنا.
لاحظ مثلًا هنا كيف قررت صاحبة هذا التعليق على اليوتيوب، أن الملاحظات السلبية المذكورة في بودكاست بخصوص السيناريو وعناصر فنية أخرى في مسلسل تحت الوصاية، هى ببساطة (نفي لوجود مشكلات ومعاناة للسيدات في المجتمع)!
عباءة المسلسل المقدس التي تمنحها المنصات بالمناسبة، تنطبق أيضًا على أنواع أخرى.
لاحظ مثلًا كيف تعرض كثيرون لهجوم وتشكيك في وطنيتهم في السنوات الأخيرة، عند ذكر أى ملاحظات سلبية بخصوص المستوى الفني لمسلسل مثل الاختيار، تدور أحداثه عن دور الأجهزة الأمنية في مواجهة الجماعات الإسلامجية الإرهابية.
نال مسلسل “الهرشة السابعة” ملاحظات مبكرة على السوشال ميديا؛ باعتباره مسلسلًا عن الطبقة العليا في مصر التي تسكن في كومباوندات معزولة، وتحيا بطباع أجنبية، أو ما يُطلق عليه بالمصطلح الدارج “مسلسلات إيجيبت” نسبة الى كلمة Egypt بالإنجليزية.
بالمقابل نال “جعفر العمدة” تصنيفًا عكسيًا مبكرًا؛ لأن أبطاله – على الأقل نظريًا وبحكم مستواهم التعليمي وأماكن سكنهم الجغرافية – ينتمون إلى “فئات شعبية” بالمصطلح الدراج.
مسلسل البحث عن علا | الرجال ليسوا ضروريين في عالم الكومباوندات | أمجد جمال
خلق هذا سِجال على السوشال ميديا، ونتج عنه اتهامات، وطريقة مشاهدة مختلفة للمسلسلين.
إذا شاهدت الهرشة السابعة، فأنت متهم بالانفصال عن الواقع المصري، وإذا شاهدت جعفر العمدة، فأنت متهم بتدني الذوق والوعى وتشجيع البلطجة والإجرام.
على صعيد آخر، ساهم هذا المنظور على السوشال ميديا، في خلق جمهور للمسلسلين، باعتبارهما فرصة لكل طبقة، كي تُجرب متعة التلصص على حياة الأخرى!
تتحرك أحداث مسلسل جعفر العمدة في إطار ميلودراما، عن أب يبحث عن ابنه، ويتخللها مقاطع يصبح فيها البطل قريب جدًا من معرفة الإجابة، دون أن يستوعبها.
خلق ذلك سيل من المنشورات الساخرة يوميًا، التي صاغت البطل كشخص بطيء الفهم، لتصبح هذه المنشورات نفسها، أقرب لمسلسل موازي يومي آخر، منبثق من الأصل!
تدريجيًا، حدث تداخل بين المسلسلين، وأصبح المتلقي ينظر لمشاهد ميلودراما في المسلسل، بعين تبحث عن النكتة اليومية المنتظرة، وبروح شخص ينتظر نهاية الحلقة، ليشاهد كيف سيقتنص خبراء الميمز، ما يصلح للمرح منها.
والملاحظ في حالة جعفر العمدة أن كل الميمز والمنشورات الساخرة أيًا كانت محاور ارتكازها، ساهمت في زيادة شعبية المسلسل، ودفعت آخرين بحلول منتصف رمضان إلى متابعته.
خلي بالك من ساندي | كيف تحولت الميمز إلى لغة تفكك المجتمعات وتبنيها؟ | فيروز كراوية
أصبح التأثير النفسي لهذه المنشورات على المتلقي الذي لا يشاهد المسلسل هو: يبدو أن جعفر العمدة مسلسل ممتع، أو أنه على الأقل يستوجب المشاهدة، لمتابعة المسلسل الآخر اليومي الساخر المقتبس منه على السوشال ميديا!
والجدير بالذكر هنا، أن المسألة لا تتعلق بلجان أو بنشاط تسويقي، كما يصمم بعض المزعجين من نجاح جعفر العمدة والرافضين لنجم المسلسل محمد رمضان. وإنما ببساطة طريقة تفاعل جماهيرية نتجت عن المسلسل نفسه.
لاحظ كيف فرض جعفر العمدة تغييرًا في مسار السوشال ميديا من مرحلة المنشورات التي تصبغ المسلسل بتهمة العنف والتحريض على البلطجة، في بداية رمضان، إلى مرحلة المنشورات التي تبرز المسلسل كعمل مسلٍ بحلول منتصف الشهر.
والخلاصة من كل ما سبق، أن التفاعل بين السوشال ميديا والترفيه، أصبح أكبر وأعقد مما نتخيل، وأننا لم نعد نرى المسلسلات الرمضانية بأعيننا وأذهاننا مباشرة، وإنما من خلال نظارة سوشال ميديا، قد تكون موجودة على وجه كل منا، دون أن يدري في أغلب الوقت.
المزيد عن حصاد مسلسلات رمضان في 2023 وعن الأفضل في كل فرع، ستجدونه هنا: