– لكنك وعدت ألا تقتله؟
– ولن أفعل، لكنه ضعيف، والصحراء تفترس الضعيف. صحرائي وكثيبي سيقومان بالمهمة.
الحوار السابق يتردد في أحد مشاهد فيلم الكثيب Dune على لسان الشرير، لكنه أيضًا حوار يصلح لوصف مشوار الرواية المُحبط مع المعالجات السينمائية، وقدرتها الغريبة على افتراس أقوى أباطرة هوليوود.
#نتفرج_بعدها_نحكم؟ لسكورسيزي وسبيلبرج وبيكسار رأى آخر | حاتم منصور
عندما صدرت الرواية عام 1965 لمؤلفها فرانك هربرت، لم تتحول فورًا الى صاروخ مبيعات، لكنها راكمت بالتدريج نجاحها، وانبثق منها لاحقًا سلسلة أدبية كاملة، لتصبح اليوم طبقًا للإحصائيات، ضمن أنجح روايات الخيال العلمي في التاريخ، ان لم تكن صاحبة المركز الأول.
لتقريب الصورة للقارىء الذي لا يعرف الكثير عن الرواية: يمكن اعتبارها نسخة الخيال العلمي المستقبلية من روايات ملك الخواتم، حيث تتضمن الأحداث عوالم كثيرة ومتصارعة، عرقيات متباينة، كواكب أخرى، مسوخ فضائية، أجواء ملكية وإمبراطورية، إسقاطات مسيحية وفلسفية، رمزيات عن السلطة والحكومات والحروب على الموارد، ملامسات لفكرة البشري الخارق وحقبة ما بعد الإنسان Post human وغيرها مما يطول ذكره.
باختصار الكثيب رواية مهمة، تركت تأثيرها على آلاف الأعمال الأدبية والسينمائية حتى اليوم.
الوجودية المسيحية بين بولس ونجيب محفوظ: قراءة في رواية “الطريق” | مينا منير
السينما لم تتأخر كعادتها في اقتناص النجاح، وحاول عديدون صناعة فيلم مقتبس عن Dune منذ أواخر الستينيات، لكن استمرت الرواية في افتراس وقتل كل المجهودات، وأصبحت أشبه بصحراء تلتهم كل من يجرؤ على الخوض فيها.
قائمة ضحايا السبعينيات تشمل منتج في وزن آرثر جاكوبس (صاحب أفلام كوكب القرود)، ومخرجين كبار مثل ديفيد لين، أليخاندرو يودوروفسكي، ريدلي سكوت.
كلهم أضاعوا سنوات وسنوات في التحضير، وانتهت مشاريعهم دون تنفيذ لأسباب مختلفة يطول شرحها.
لكن النجاح الساحق عام 1977 لأول أفلام حرب الكواكب Star Wars للمؤلف والمخرج جورج لوكاس، وهو فيلم يقتبس الكثير والكثير من ثيمات وشخصيات وعوالم الكثيب، جعل الإنتاج مسألة وقت، ووصل المشروع في النهاية لمخرج مهم وهو ديفيد لينش، الخارج لتوه من عمل ناجح تجاريًا ومميز بصريًا.
النتيجة النهائية كانت فيلم Dune إنتاج 1984 الذي فشل في شباك التذاكر، وصنفه البعض وقتها كأسوأ أفلام العام، وتبرأ منه لاحقًا مخرجه، مؤكدا أنه لم يصنعه بالطريقة التي يريدها، بسبب تدخلات المنتجين.
سجلت عوالم Dune نجاحا أفضل على الشاشات عام 2000 في مسلسل قصير، ومع حصاد العقدين الأخيرين في هوليوود، يسهل استنتاج أسباب الحماس لإعادة المحاولة في فيلم جديد.
مملكة الخواتم، لعبة العروش، عالم مارفل.. كلها عوالم ضخمة تشمل عشرات الشخصيات، ومشاهد أكشن، وألاعيب خدع بصرية، وعدة أجزاء بدلاً من عمل واحد، وكلها حققت مليارات.
The Suicide Squad | الفرقة الانتحارية تتمسك بالحياة في فيلمها الثاني | حاتم منصور
حان إذًا وقت عودة الكثيب Dune بفيلم ضخم الإنتاج يليق بالرواية، ويمهد لعالم سينمائي وأجزاء أخرى، ومن جديد فاز المشروع بمخرج مهم وهو دينيس فيلنوف.
لكن للأسف حتى فيلنوف لم ينجُ من صحراء الكثيب، وانتهى بنا الحال، أمام محاولة أفضل بالتأكيد من فيلم لينش، لكن أقل من المتوقع بالنظر لمستوى عظمة آخر أعماله Blade Runner 2049.
المشاكل تبدأ من السيناريو الذي كتبه فيلنوف بالتعاون مع جون سباهتس وإيريك روث.
محاولة شرح وتلخيص أجزاء من الرواية للمشاهدين، عن طريق الحوار أو التعليق الصوتي للشخصيات، لم تؤتِ ثمارها، لأن النتيجة تائهة الى حدٍّ كبير، وغير متضافرة مع ما يحدث قبلها/بعدها.
سينما المؤلف والمخرج.. الفن يتسع للجميع
ومع تراكم الشخصيات تدريجيًا وتكدس الخيوط الدرامية، يتوه الفيلم بمرور الوقت أكثر وأكثر. كلما اقتربنا من شخصية أو صراع، ينقلنا الفيلم لشخصية أو صراع آخر، وبشكل مضطرب.
أوسكار إيزاك، جوش برولين، خافيير بارديم، زيندايا. كل النجوم السابقين ممثلون صف أول، وفي تاريخهم الفني إبداعات تثبت ذلك، لكن الفيلم لا يمنحهم ما يذكرنا بمهاراتهم.
حتى تيموثي شالاميت وهو واحد من أفضل الممثلين الشباب، يبدو تائهًا هنا وفي أقل مستوياته، رغم أنه يلعب دور البطولة، وينال مساحة زمنية أفضل من زملائه.
وحدها ريبيكا فيرجسون تقريبًا، التي تنجح في اثارة اهتمامنا بالشخصية التي تلعبها، رغم المساحة البسيطة، وللإنصاف حان الوقت لتصنيفها كممثلة مهمة، وأكثر من مجرد وجه جميل على الشاشة، لأنها فعلت ذلك أكثر من مرة سابقًا.
ومعها ستيلان سكارسجارد الذي ضاعف مهابة وغرابة شخصية الشرير، بفضل أدائه الصوتي.
على كلٍّ، الطعنة الأهم والإخفاق الأكبر في Dune سببهما الطريقة التي اختارها مؤلفوه لإنهاء الفيلم، باعتباره مجرد بداية، تمهد لفيلم ثانٍ.
تقسيم رواية كبيرة إلى فيلمين أو أكثر، اجراء لا بأس به، بشرط أن يصبح كل فيلم، عمل له بداية ونهاية ومُشبع في حد ذاته، بحيث لا يشعر معه المشاهد بإحباط.
كيف تعالج هوليوود أزمة تسويق الأفلام المثيرة للجدل؟ | حاتم منصور
هذه مهمة نجح فيها سابقًا بيتر جاكسون مؤلف ومخرج ثلاثية ملك الخواتم. كل جزء يُحقق إشباعًا للمتفرج في حدٍّ ذاته، ويُشوّقه في نفس الوقت لمشاهدة الجزء التالي.
وبالتأكيد يمكن ذكر الجزء الأول من فيلم الرعب IT الذي نجح مؤلفوه، في اقتباس نصف رواية ستيفن كينج التي تحمل نفس الاسم، للوصول لفيلم مُشبع في حد ذاته، ومُشوق لنصف ثان؛ كان إنتاجه مؤجلاً ومرهوناً بنجاح الفيلم الأول.
حتى مارفل المُتهمة دومًا بضعف المستوى، نجحت في هذه المهمة ببراعة في أخر فيلمين لفريق أفنجرز (انفينيتي وور – إند جيم).
كيف أصبح التمثيل أهم قوة خارقة في Avengers: Endgame؟ | حاتم منصور
إخفاق Dune في هذه المهمة يضعنا أمام سؤال مهم: هل الفشل نتيجة ضعف حسابات من مؤلفي الفيلم، الذين توهموا أن نهاية الجزء الأول مُشبعة وكافية؟
أم أننا ببساطة على مشارف عصر، أصبحت فيه أفلام هوليوود أشبه بمسلسل يُعرض في القاعات، ويتوجب علينا كمشاهدين قبول أى نهاية مبتورة في حلقة اليوم من المسلسل؟!
مستقبل الترفيه: كيف تحققت نبوءة مخرج تيتانك في لعبة العروش وأفنجرز؟ | حاتم منصور
رغم هذا العيب القاتل ينجو Dune بفضل عنصرين، هما: مستواه المهيب والفخم بصريًا وصوتيًا.
الصورة هنا أقرب لأفلام المخرج ديفيد لين وأفلامه الملحمية من نوعية لورانس العرب ودكتور زيفاجو، منها لأفلام مارفل وحرب النجوم وغيرها من سلاسل هوليوود.
كل لقطة تقريبًا تعكس هندسة بصرية قائمة على استعراض مساحات عملاقة أمام الأبطال، أو خلفهم. كل شيء هنا ضخم وعملاق، حتى عندما نترك الصحراء، وتدور الأحداث داخل مباني أو مركبات.
ورغم أن مدير التصوير جريج فريزر، لا يرقى إجمالًا لمستوى روجر ديكنز الذي قام بتصوير أهم أفلام فيلنوف السابقة، الا أن كثيب بالتأكيد نقلة في مشواره، ومحطة ترشيح شبه مضمونة للأوسكار، وعلامة مطمئنة لعشاق باتمان لأنه مدير تصوير الفيلم القادم.
باتمان 2022 وخمس أفلام وألغاز سينمائية مرتقبة من “دي سي كومكس” | حاتم منصور
نفس الفرص الأوسكارية شبه المؤكدة، يمكن قولها عن خبراء تصميم الإنتاج والديكورات والمركبات والملابس والمؤثرات البصرية.
الأحداث تنتقل بنا عبر 3 عوالم/عرقيات/كواكب مختلفة، ولكل منهم رونق بصري خاص مقتبس من حضارة ومجتمع ما.
عالم البطل وأسرته، يبدو أقرب بصريًا لأوروبا بملابسهم الملكية، والديكورات الشبيهة بالحضارات اليونانية والرومانية.
وعالم الأشرار، يبدو أقرب لمصر القديمة بالرؤوس الصلعاء الحليقة، والمباني العملاقة الشبيهة بالأهرامات والمعابد والتوابيت.
وعالم كوكب الكثيب، يبدو أقرب بصريًا للجزيرة العربية بصحرائه الممتدة الخالية من المبان، والمجتمعات الإسلامية بأغطية رأس النساء الشبيهة بالحجاب.
سبعة أفلام صاغت الحضارة المصرية القديمة بفخامة وهيبة بصرية | حاتم منصور
يرث الفيلم المقاربة الأخيرة من الرواية، وتزداد وضوحًا، إذا لاحظنا أولًا الطبيعة النفسية والفكرية المهيمنة على هذه الفئة، التي تميل للأديان والنبوءات. وثانيًا حقيقة أنهم الفئة الأقل تقدمًا وسط الجميع، لكن محور الصراعات، بسبب وفرة الثروات الطبيعية تحت أرضهم (معادل البترول). وللمزيد من الحسم في الفيلم نسمعهم يتحدثون بالعربية في بعض المقاطع.
هذا التباين البصري كان سيزداد فعالية لو اختار مخرج الفيلم، شكلا وعِرقا محددا للطاقم التمثيلي لكل فئة من الثلاثة، لكنه اختار التنوع لكل فئة، وآثر السلامة، وقرر أن يبعد رقبته عن مقاصل تويتر واتهامات العنصرية ومخاطر ثقافة الإلغاء، على ضوء هستيريا الصوابية السياسية المعاصرة!
الكثير من ألاعيب الصوت أيضًا في الفيلم تستحق الإشادة، خاصة أن الصوت يُستخدم كسلاح لدى بعض الشخصيات.
Sound of Metal | لماذا يستحق أوسكار أفضل صوت دون منازع؟ | حاتم منصور
ومن جديد يعود الموسيقار هانز زيمر لصياغة مزج موفق، نصفه أقرب للموسيقى التاريخية وأصوات الترانيم والأناشيد، التي قدمها سابقًا في فيلم المصارع، ونصفه الثاني أقرب لمعزوفات التشويق والشد العصبي ذات الطابع الملحمي، التي قدمها في ثلاثية باتمان التي أخرجها نولان.
كل ما سبق من جهد من طاقم مبدعين، وكل الأحلام بخصوص جزء ثان، أصبحا الآن للأسف محور لعبة قمار في شباك التذاكر، عندما يبدأ عرض الفيلم في الولايات المتحدة، بالتزامن مع طرحه على منصة HBO.
قاعات السينما أم المشاهدة المنزلية؟ 5 فروق رئيسية قد تحدد مستقبل قاعات العرض | حاتم منصور
هل سيحقق Dune ما يكفي، لتواصل شركة وارنر خطتها الإنتاجية التي تشمل حاليًا فيلمين آخرين، ثم مسلسل يستكمل عالم الروايات؟
واذا حدث هذا، هل سينجح فيلنوف وفريق العمل، في علاج عيوب الجزء الأول، بفيلم ثان أجود وأهم، يُجبرنا على إعادة النظر هنا بشكل مختلف؟
هل خلود الفن معيار لجودته؟ خمس ثغرات لهذه النظرية | أمجد جمال | دقائق.نت
أم أن الإيرادات ستصبح متواضعة، وستصل رواية الكثيب إلى مرحلة قياسية جديدة من التوحش والعنف ضد السينما، وتدخل التاريخ كرواية افترست وقتلت مشروع إنتاج الجزء الثاني منها؟!
الإجابة سنعرفها قريبًا، لكن صحراء فرانك هربرت مرعبة ومقلقة بالتأكيد، وكل الاحتمالات واردة.
مهابة بصرية وصوتية تستحق الإشادة والتأمل، وتضمن غالبًا وصول الفيلم لترشيحات أوسكار في الفروع التقنية، مقابل عيوب غير متوقعة على صعيد السرد والشخصيات، قد تكون كفيلة بدفنه في صحراء النسيان. أمام الكثيب رحلة صعبة للبقاء، والجزء الثاني وحده هو من سيحسم الأمر حال إنتاجه.