اضطررت بسبب الضغوط أن أحذف، باستخدام خدع الجرافيك، برج التجارة العالمي في خلفية مشهدين، قبل عرض فيلم Serendipity. مشاعر الجمهور كانت واضحة ومنطقية: لا نحتاج وسط فقرات الترفيه لشىء يذكرنا بكارثة 11 سبتمبر.
التصريح السابق يخص المنتج الهوليوودي الشهير هارفي وينستاين في لقاء صحفي أواخر سبتمبر 2001 عندما كانت أوجاع الصدمة لا تزال في أشدها، وعندما كان هو لا يزال في قمة مجده، وقبل سنوات وسنوات من تعرضه لهجمات مي تو، التي نسفت مسيرته الفنية.
تايم لاين في دقائق| #MeToo .. صدمة ما بعد السنة الأولى
يصعب تخيل وجود صدمة أكبر للشعب الأمريكي من هذه الفترة. الدولة التي خاضت كل حروبها خارج أراضيها في أخر قرن، تتعرض فجأة لطعنة قاسية تودي بحياة آلاف على يد تنظيم ارهابي، وبطريقة لا تتضمن أى معدات حربية.
كيف تفاعلت هوليوود مع هجمات 11 سبتمبر؟ الاجابة الكاملة قد تحتاج لمجلدات، لكن 11 لقطة سريعة قد تكفي للإيجاز.
التسعينيات كانت عقدا مميزا، بدأ بانتهاء الحرب الباردة ضد الخصم اللدود (روسيا/الاتحاد السوفييتي)، وبثورة تكنولوجية سينمائية خاضها أباطرة اخراج مثل جيمس كاميرون وسبيلبرج في فيلمى (المبيد يوم الحساب – حديقة جوراسية)، وجعلت البرمجيات والجرافيك مستقبل هوليوود.
أفلام تحدت الزمن | كيف أسس “ترمينتور 2” لمستقبل هوليوود في الخدع السينمائية؟ | حاتم منصور
حصاد ذلك ظهر أكثر في النصف الثاني من العقد، عندما تصدر شباك التذاكر سنويًا أفلام ساهم فيها الجرافيك بشكل كبير مثل (قصة لعبة – يوم الاستقلال – رجال بالملابس السوداء – تيتانك – أرماجيدون – حرب النجوم تهديد الشبح).
وغياب العدو التقليدي (روسيا) ساهم في ظهور حبكات وأفكار درامية مبتكرة، أصبح فيها الخصم الشرير هو الكمبيوتر نفسه والآلات أحيانًا، أو الأكاذيب والأوهام التي تخلقها الميديا حولنا، أو الحكومة الأمريكية التي تخفي الحقيقة.
البحث عن الذات في مجتمع مادي زائف سلطوي ساحق للفردية، كان محور أفلام مهمة أيضًا خلال هذه الفترة.
تحديات الإرهاب كانت لا تزال موضع استخفاف في هوليوود، سواء في أفلام الأكشن المرحة مثل أكاذيب حقيقية الذي أخرجه جيمس كاميرون عام 94 أو الأفلام الأكثر جدية مثل طائرة الرئيس الأمريكي الذي أخرجه ولفجانج بيترسن عام 97.
البطل الأمريكي دومًا ينجح في هزيمة الارهابيين الحمقى، وينقذ الموقف والرهائن، ويعود لأحضان حبيبته.
في الحقيقة مالت هوليوود وقتها لجعل التحديات أكبر. البطل لا ينقذ أمريكا فقط، بل ينقذ العالم كله، من شرور غزاة فضاء، أو مومياء فرعونية عادت للحياة، أو سيل نيازك متوجه إلى الأرض، أو حتى من الشيطان نفسه.
جاءت 11 سبتمبر لتصعق الجميع، واهتزت صورة البطل الذي لا يُهزم، ولم تعد مشاهد الارهاب والتهديد والتفجير عنصر تسلية للجمهور، بقدر ما أصبحت سببًا لاستدعاء ذكرى مريرة.
أفلام ومشاريع عديدة كانت قيد التحضير تعرضت لالغاء كامل. وأخرى انتهى تنفيذها قبل الكارثة وكانت على وشك العرض، ثم تأجل عرضها ونالها الكثير من التعديل والحذف في غرف المونتاج.
كيف تعالج هوليوود أزمة تسويق الأفلام المثيرة للجدل؟ | حاتم منصور
وصف جيمس كاميرون قراره وقتها، باستبعاد فكرة صناعة جزء ثان من أكاذيب حقيقية قائلًا: نسف المباني وقيام ارهابيين بالقاء قنابل على البشر، لم تعد أمور تصلح كمادة تسلية وترفيه.
بحلول نوفمبر وديسمبر 2001 تصدر هاري بوتر وملك الخواتم، شباك التذاكر الأمريكي، وأصبحا أنجح أفلام العام كله. كلاهما يدور في عالم خيالي غير عالمنا.
والأفلام الأخرى التي نجحت في شباك التذاكر، وأقرب للواقع وعالمنا، كانت خفيفة ومن نوعية أوشن 11 Ocean’s Eleven.
كلها أفلام تم تنفيذها قبل الكارثة، لكنها عُرضت بعدها، وأثبتت ايراداتها صحة ما ذكره وينستاين وآخرون في هوليوود: الجمهور الأمريكي لا يحتاج وسط فقرات الترفيه، لشىء يذكره بكارثة 11 سبتمبر.
في الحقيقة يمكننا أن نمد الخط أكثر وأكثر، وأن نقول: الجمهور الأمريكي كان يبحث عما ينسيه هجمات سبتمبر، وعن عالم آخر خيالي لا توجد فيه هذه اللحظة القاسية.
أفلام تحدت الزمن | كيف أصبح “المهمة: مستحيلة” من علامات أفلام الأكشن؟ | حاتم منصور
والدليل أن الأعوام التالية سيتصدرها أيضًا في شباك التذاكر، مع الأجزاء التالية من هاري بوتر وملك الخواتم، أفلام مغامرات وعوالم خيالية أخرى مثل (سبيدرمان – قراصنة الكاريبي – البحث عن نيمو).
توم كروز – وهو من هو من حيث الشهرة والصبغة الوطنية الأمريكية – كان النجم الذي وقع عليه الاختيار لتقديم الفقرة الافتتاحية في الأوسكار التالي لهجمات سبتمبر، وحملت خطبته رسالة واضحة: نعم نحن هنا الليلة للاحتفال بكل ما قدمناه وما سنقدمه في هوليوود، ونفخر بدورنا في هذه اللحظات القاسية.
في نهاية نفس الحفل انحازت الأوسكار لفيلم عقل جميل A Beautiful Mind المقتبس من قصة حقيقية عن الفيزيائي الأمريكي جون ناش، الذي تجاوز كل احباطاته الشخصية والمهنية ومشاكله النفسية والعصبية، ونجح في الفوز بجائزة نوبل، بمساندة زوجته المخلصة.
اختيار تصويتي منطقي لعام شهد كارثة، ولمرحلة كانت فيه الرسالة المفضلة على أذن الجماهير هى: نعم سنمضي قدمًا رغم كل الجروح والأحزان لأن معدننا طيب.
وفي العام التالي مباشرة، ستستبعد الأوسكار (عصابات نيويورك – عازف البيانو)، والاثنين من أفلام العنف والحروب والدم، وستنحاز الى شيكاغو، وهو الأكثر مرحًا وسط قائمة المرشحين.
اختيار منطقي أيضًا رغم كون شيكاغو الأقل فنيا وصمودًا في الذاكرة اليوم مقارنة بالمنافسين، لمرحلة كان لا يزال شعارها (الجمهور لا يحتاج لشىء يذكره بتفاصيل كارثة 11 سبتمبر).
في صيف 2005 بدأ عرض فيلم حرب العوالم War of the Worlds من بطولة توم كروز واخراج ستيفن سبيلبرج، واحتوي على مقطع يصعب على أى مخرج آخر اقناع ستوديوهات هوليوود به وقتها؛ يستنسخ بوضوح فيديوهات رعب هجمات سبتمبر.
في البدء كانت العدوى.. 10 أفلام رسمت نهاية البشرية بالفيروسات | حاتم منصور
مئات البشر تجري وتحاول النجاة من هجمات قادمة من السماء، لكنهم يحترقون ويتحولون لرماد يسقط على وجوه وملابس الآخرين، في مشهد تم تنفيذه بكاميرا محمولة، كما لو كانت لقطات حقيقية التقطها مصور أخبار وسط الأهوال.
المشهد المقصود – War of the Worlds
هذه الملامسة الشجاعة انتاجيًا وفنيًا من سبيلبرج وفريقه لم تمنع الفيلم من أن يصبح ثالث أنجح أفلام العام في شباك التذاكر، بعد فيلمين من سلسلتين أقدم (حرب النجوم – هاري بوتر).
وبفضلها اكتسب حرب العوالم سمعته كفيلم جريء وكابوسي، لا يبالي بالخطوط الحمراء في هوليوود، ويسرد رواية خيال علمي قديمة، بمنظور يواكب عالمنا المعاصر وأهواله.
في عيده الـ 20.. كيف غير “المصارع” هوليوود للأبد؟ | حاتم منصور
لم يكن غريبًا بعد أن كسر فيلم سبيلبرج الحاجز النفسي أمام فكرة استدعاء ذكرى الكارثة بصريًا، أن يشهد العام التالي مباشرة (2006) عرض فيلمين مهمين عن هجمات سبتمبر نفسها.
عام 2005 وفي نفس صيف فيلم سبيلبرج، سيبدأ كريستوفر نولان وكريستان بيل مشوارهما مع عالم باتمان، بفيلم بداية باتمان Batman Begins.
على عكس أفلام المخرج تيم بيرتون السابقة، التي انحازت لشكل سيريالي وعالم خيالي، ولتكوينات بصرية تميل الى الخيال القوطي تحديدًا، انحاز نولان لتقديم باتمان في نفس عالمنا، وجعل أسلحته وعتاده ومركباته أقرب لمعدات الجيش الأمريكي الحديثة.
مشاهد تحطيم مدينة جوثام، لامست ذكريات هجمات سبتمبر، لكن الجولة الأهم التي سيلامس فيها باتمان ونولان الكارثة بصريًا ونفسيًا ستتحقق عام 2008 مع الجزء الثاني (فارس الظلام).
شرير الفيلم – الجوكر – لا يسعى إلى مال أو سلطة، بقدر ما يسعى لتحطيم الروح نفسها، وتحويل قيم مثل الخير والنزاهة إلى نكت سخيفة قديمة لا تقنع أحدًا.
يوم لقاء الخميني مع الجوكر | الحكاية في دقائق
وفي ذروة الصراعات تتجلى فلسفة الجوكر في هدفين؛ أولهما تحويل هارفي دينت ذي الضمير، إلى مجرم حقير لا يختلف عن حثالات جوثام التي يحاربها.
وثانيهما الضغط على أعصاب مئات البشر بتهديد إرهابي يتضمن مفجرات، وتحديد سبيل واحد فقط للنجاة أمام الرهائن، يتطلب منهم ممارسة الشر والقتل (تفجير رهائن آخرين).
كلكم مجرد مجرمين وإرهابيين وأوغاد، بل أنتم أصل الإرهاب والقذارة والحروب والسرقة والدماء، وكل شىء حققتموه وتفخرون به قابل للحرق. هذه كانت رسالة الجوكر ودوافعه، وهى نفسها تقريبًا نص رسالة أسامة بن لادن الشهيرة لأمريكا والغرب، بعد ارتكابه هجمات سبتمبر.
لكن خطط الجوكر لتدمير روح جوثام ستفشل، لأن بطلنا (باتمان) غير قابل للإفساد أو الكسر، وفي لحظة الحسم سيقبل أن يصبح هو المجرم المدان في أعين ملايين، كضريبة عادلة لإنقاذ القيم والمبادىء التي بنى بها أهله مع آخرون جوثام يوما ما، وستظل كفيلة بإعادة بنائها ألف مرة مهما حاول الأعداء.
باتمان 2022 وخمس أفلام وألغاز سينمائية مرتقبة من “دي سي كومكس” | حاتم منصور
إستبدل بجوثام في الفقرة السابقة كلمات مثل (أمريكا – الحضارة الغربية) وستجد القالب المثالي الوطني القومي، الذي يحبذه الأمريكيون، للرد على تهديدات بن لادن ورفاقه.
نجاحات باتمان في شباك التذاكر كانت برهانا آخر لهوليوود أن الحاجز النفسي لدى الجمهور، بخصوص الإحالات البصرية والنفسية لهجمات سبتمبر، قد انتهى.
في صيف 2008 أيضًا، بدأ الرجل الحديدي Iron Man جولاته السينمائية، ووضع النواة الأولى في أنجح سلسلة هوليوودية بمعايير شباك التذاكر اليوم (عالم مارفل السينمائي).
هل تذكرون تفاصيل الفيلم؟
بطلنا الأمريكي ذهب الى أفغانستان – وهى معقل بن لادن ورفاقه – كملياردير ثري مستهتر، ثم تعرض للحبس والذل والتعذيب على يد إرهابيين ومرتزقة، قبل أن يهرب ويسحقهم قائلًا “حان دوري للرد”.
وخرج من التجربة الصعبة، كشخص مختلف وصلب، يدرك حجم المسؤولية الملقاه على عاتقه، التي ستتضمن لاحقًا إنقاذ الكوكب – بل والمجرة كلها – من شرور جبابرة مثل ثانوس.
وكأن رحلة البطل الأمريكي للعودة الى نفس مكانته العظيمة، ومهامه في هوليوود التسعينيات، كان ولابد أن تمر أولًا بعقدة بن لادن وأفغانستان!
كيف أصبح التمثيل أهم قوة خارقة في Avengers: Endgame؟ | حاتم منصور
لعلها أيضًا وبنفس ترتيب الأحداث في الفيلم، نفس خطوات هوليوود، في التعامل مع هجمات سبتمبر، والملخص العام لكل ما سبق:
1- مرحلة الاستهتار بالارهاب وحجم التهديدات (التسعينيات).
2- مرحلة الصدمة والانكسار (2001).
3- مرحلة الانكار النفسي للواقعة (الأفلام الهروبية في مواسم 2002 – 2004).
4- مرحلة التقبل والاعتراف (أفلام 2005 التي لامست الواقعة بإحالات غير مباشرة).
5- مرحلة المواجهة مع مصدر الخوف (أفلام 2006 المباشرة عن هجمات سبتمبر).
6- مرحلة النصر وعودة الثقة (إعادة بعث البطل النبيل من رحم الكارثة نفسها في أفلام مثل فارس الظلام والرجل الحديدي عام 2008).
7- مرحلة تحديد أهداف مستقبلية جديدة (البطل تجاوز الأمر وكذلك جمهوره لأنهم أكبر من أن يعيشوا الحياة مشغولين بحثالات إرهابية متخلفة لا تزال تعيش في الكهوف).
خلال الأعوام التالية ستنتقل نجاحات شباك التذاكر الى أفلام غير خيالية وغير ترميزية، تناولت توابع هجمات سبتمبر.
وستتحطم أسطورة الجمهور الذي لا يحب مشاهدة أى شىء عن حرب العراق وأفغانستان، بفضل إيرادات أفلام مثل (الناجي الوحيد – القناص الأمريكي – 30 دقيقة بعد منتصف الليل).
اليوم بعد مرور عقدين على هجمات سبتمبر، لم تعد الواقعة نفسها مصدر اهتمام كبير سينمائيًا، ربما لأن الجمهور أصبح يراها اليوم بحجم أقل بكثير، من الحجم الذي صُنفت به وقتها، وربما لأسباب أخرى ليست موضوعنا هنا.
الشىء المؤكد أنها لن تختفي تمامًا من الشاشات، خاصة في ظل الأوضاع المشتعلة دومًا في منطقة الشرق الأوسط، والعمليات الإرهابية الاسلاموية الدوافع المتكررة ضد الغرب.
طالبان – داعش | كانا شريكين في “طرد الكفار” وتحاربا بعد “طرد الكفار” .. ما السبب؟ | س/ج في دقائق
وصلنا للختام، وغالبا يدور بذهن بعض القراء سؤال منطقي جدًا: لماذا لم يتضمن المقال أى ذكر للأفلام المصنوعة عن هجمات سبتمبر نفسها؟!
والإجابة موجودة بالفعل، في مقال سابق يمكن قراءته عبر الرابط التالي: