“تبًا لمارلين مونرو.. ليست هنا”.
بهذه العبارة تنهي مارلين مونرو مكالمة هاتف بغضب، في أحد مشاهد فيلم شقراء Blonde المتاح حاليًا على منصة نتفلكس. وإلى حد كبير تلخص هذه الجملة روح الفيلم.
لا نشاهد هذه المرة مارلين مونرو صاروخ المرح والإغراء، كما عهدناها في أفلامها، بل نشاهد نورما جين، الطفلة المكسورة نفسيًا التي كبرت، وخلقت لنفسها هوية سينمائية مرحة اسمها مارلين مونرو.
وطوال الأحداث، يسرد المخرج الأسترالي أندرو دومينيك الفرق بين صورتها ومفاهيمها هي عن نفسها، وصورتها الذهنية لدى الجمهور والمحيطين.
دومينيك مهووس عامة بثيمات مثل تأثير الشهرة والحياة بهوية المزدوجة، واختلاف منظور الذات عن منظور المحيطين، وهو ما يتضح من أفلام سابقة له مثل “تشوبر – اغتيال جيسي جيمس من قبل الجبان روبرت فورد”.
لكن على عكس هذه الأفلام، التي تعرضت لمسيرة رجال عصابات غير مشهورين عالميًا للدرجة، اقتنص دومينيك فرصة أكبر هنا، مع نجمة قد تكون الأشهر على الإطلاق في تاريخ السينما.
من طفولة بائسة غاب فيها الأب، وكانت الأم فيها هي أول المُعنفين والمُسيئين لمونرو، إلى عالم هوليوود والتعرض للاستغلال الجنسي والتحرش من المنتجين والسياسيين، إلى زيجات محبطة، ومحاولات يائسة للحمل والإنجاب، تسعى فيها مارلين مونرو لتعويض ما فاتها، بالتحول للأم الحنونة التي لم تحصل عليها قط طوال حياتها، يسرد فيلم Blonde مسيرة بطلته، ويقدمها بالأساس كضحية تبحث عن الحب والاحترام والتقدير، في عالم لا يراها سوى دمية جنسية جميلة، وفتاة تافهة يستحيل أن تقرأ كتابًا.
طفولة بائسة وزوج يرى “الست ملهاش إلا المطبخ”.. ألغاز مارلين مونرو حية وميتة | الحكاية في دقائق
على المستوى البصري، يجنح دومينيك لتنفيذ صورة براقة وناعمة وخاطفة للعين أغلب الوقت. لكنها هنا ليست إبهارًا بغرض الإبهار، بقدر ما هي ترجمة بصرية ذكية، للحياة التي تعيشها البطلة.
التركيبة البصرية تحقق الكثير هنا؛ ليس لأنها فقط خير معبر عن عالم الشهرة والنجومية في هوليوود الخمسينيات، لكن لأن تناقضها التام أيضًا مع ما نشاهده من آلام وجروح للبطلة، يصب دراميًا ناحية المطلوب (مارلين مونرو حزينة ومغتربة عن كل ما يحيط بها من فخامة وبهرجة).
في المقابل، يبدو التنقل المتكرر بين الأبيض والأسود في مقاطع، والألوان في مقاطع أخرى، والتغيير المتواصل لأبعاد الصورة، خلال النصف الأول من الفيلم، أقرب للغز يصعب معه استنتاج منهجية مفهومة للمخرج في هذا التنقل.
لكن بمرور الوقت والاندماج أكثر وأكثر مع الفيلم، أصبح هذا التنقل أقل إثارة للتساؤلات، ومنسجمًا مع فيلم ترى بطلته نفسها، كما لو كانت تائهة في حلم طويل غريب ومؤلم وغير منطقي.
دستة أفلام حديثة عادت بنا لسحر سينما الأبيض والأسود وتستحق المشاهدة | حاتم منصور
في مقاطع أخرى، يميل دومينيك إلى تنفيذ مشاهد طويلة بدون قطع مونتاج، وهو أسلوب فني يمنحنا استيعابًا شعوريًا أفضل، لما تعانيه البطلة في هذه المقاطع.
لكن الإنجاز الأهم بصريًا هنا، كان تطويع الصور الشهيرة واللحظات الأيقونية المهمة في أفلام مارلين مونرو، لتصبح جزءًا من نسيج Blonde دراميًا.
المشهد السابق الأيقوني الشهير مثلًا من فيلم هرشة السنة السابعة حين تترك مونرو فستانها الأبيض يرفرف ويكشف مفاتنها، يرتبط هنا بلحظة انكسار مؤذية جدًا نفسيًا للبطلة.
والصور الشهيرة التي يعرفها عشاق مارلين مونرو كلحظات مبهجة في حياتها، تظهر هنا مرتبطة بإخفاقات وحوادث مؤسفة لها.
هذا النهج وحده، سيكفل للفيلم غالبًا أن يتحول بمرور الوقت لكارت التعريف الأشهر عن حياة مارلين مونرو.
والطريف في هذا الشأن، أن الفيلم مقتبس عن رواية بنفس العنوان – شقراء Blonde – تنفي مؤلفتها جويس كارول أوتس دومًا فكرة أنها سرد دقيق لحياة مارلين مونرو بقدر ما هي سرد خيالي يستند إلى أحداث من حياتها، ويُقدم بتحرر قراءات نفسية لبطلة الرواية خلال هذه المواقف.
لكن هذا حال السينما دومًا. مهما حاول المؤرخون والصحفيون صياغة وقائع وكتب سيرة عن شخصية، يكفي فيلم واحد قوي، لتأسيس مصداقية لرؤية أخرى في أذهان ملايين، حتى وإن كانت أكثر خيالًا.
إلى أي مدى يجب الالتزام بالدقة التاريخية في الأفلام والمسلسلات؟ | حاتم منصور
بالطبع، لم يكن كل ما سبق سينجح بدون اختيار ممثلة مناسبة لدور مارلين مونرو.
آنا دي أرماس نجحت في المهمة. وبقدر ما تألقت وأثبتت أنها أكثر من مجرد وجه جميل، في أفلام سابقة، يمكن اعتبار دور مارلين مونرو هنا أهم أدوارها.
أداؤها يقف بثبات، بين نصف محاكاة وتقليد لمونرو التي نعرفها، من حيث الشكل، والصوت الناعم المتقطع الأنفاس، والأداء الجسدي.
ونصف آخر، تترك فيه لنفسها مساحة حرة تمثيليًا، تتسلل فيها مونرو مختلفة لما نعرفه، في فيلم يتطلب ذلك.
فيلم كليوباترا | كيف لخص اختيار جال جادوت أزمات الشرق والغرب المعاصرة؟! | حاتم منصور
يمنح Blonde فرصًا لا حصر لها لآنا دي أرماس، لاستعراض عضلاتها كممثلة، بمشاهد انفعالية مثل البكاء والغضب والانهيار. لكنه يتطلب منها أيضًا في مقاطع أخرى، أن تصبح كتومة، لا تتواصل مع من حولها، وتخفي عنهم أي مشاعر أو إحباطات.
هذه مهمة صعبة ومعقدة تمثيليًا: أن تقنعنا أنها لا تظهر شيئًا يُذكر لباقي شخصيات الفيلم حولها، وأن تلمس بأدائها عواطفنا كجمهور بأقل اللمسات والتعبيرات الممكنة في نفس الوقت. وبالطبع ألا تنسى أن تستدعي بصمات من مارلين مونرو في الحالتين.
وفي كل ما سبق، يمكن القول أنها حققت المطلوب منها، وأكثر.
الموافقة على الدور في حد ذاتها، خطوة ذكية فنيًا. من ناحية هي أقرب لرسالة إعلامية ملخصها: نعم أنا فاتنة السينما المعاصرة التي يمكن مقارنتها من حيث الحضور والجاذبية والفتنة، بأسطورة مثل مارلين مونرو.
وبقية الرسالة بعد مشاهدة Blonde هي: نعم أنا (دي أرماس) ممثلة ذكية وبارعة أيضًا، ولا يجوز تصنيفي كمجرد ممثلة متوسطة الموهبة، تختبئ خلف وجه جميل.
Judy.. عن هوليوود التي شيدت مجدها بالانتهاكات | أمجد جمال
قد تجدر الإشارة هنا، إلى أن المفاوضات الأولى لدور البطولة، تضمنت النجمة جيسيكا شاستاين التي اعتذرت.
في ظروف أخرى، كنت سأعتبر آنا دي أرماس من الآن، المنافسة الأشرس على أوسكار أحسن ممثلة هذا الموسم. لكن طريقها للفوز أصبح صعبًا للغاية لأسباب غير فنية، وهو ما ينقلنا للفقرة التالية.
في مشاهد عديدة في Blonde يجنح المخرج لصيغ صادمة، على رأسها مشهد تقدم فيه مارلين مونرو بلوجوب (جنسًا فمويًا) للرئيس كينيدي، الذي يعاملها كمجرد عاهرة محترفة.
ومشهد آخر موتر، تتموضع فيه الكاميرا داخل رحم البطلة، ونرى فيه مونرو وهي تقرر عمل إجهاض لجنينها، ثم تحاول التراجع دون جدوى.
وثالث خيالي، تتوهم فيه أنها تتحدث إلى جنين داخل رحمها.
الإجهاض في أمريكا بالأرقام | أكبر من مجرد خلاف سياسي ودستوري | إنفوجرافيك في دقائق
هذه المشاهد وغيرها، تبدو أقرب لعوالم الجنس في أفلام مخرج مشاكس مثل بول فيرهوفن، أو لأفلام الرعب الجسدي التي برع فيها المخرج ديفيد كروننبرج، أو للشطحات السيريالية في أفلام مخرج مثل ديفيد لينش.
لكنها بالتأكيد غير متوقعة هنا، في فيلم يبدو نظريًا كمشروع آمن، يستحيل أن ينتجه أباطرة السينما الأمريكية، بشطحات من هذا النوع (نتحدث عن قائمة إنتاج وتوزيع تتضمن أسماء مثل نتفلكس وبراد بيت).
قاعات السينما أم المشاهدة المنزلية؟ 5 فروق رئيسية قد تحدد مستقبل قاعات العرض | حاتم منصور
على ذكر نتفلكس، يمكننا بالتأكيد أن نعيد النظر بخصوص أهمية إسهامات المنصات؛ لأنه يستحيل أن تطرح أي شركة سينما أخرى فيلمًا كهذا في دور العرض بشكل موسع، بعد أن اختارت جمعية الفيلم الأمريكي، وصمه رقابيًا بتصنيف صعب في التسويق، وهو NC-17
دلالة التصنيف: محظور مشاهدته لكل من هم أقل من 18 عامًا.
ودلالة رد فعل نتفلكس: لا يهم. لن نحذف أو نعدل في Blonde شيئًا سعيًا لتصنيفات أكثر رأفة، لأن طبيعة عملنا مختلفة ولن يخسر الفيلم جمهوره بسبب إجراء كهذا.
كل المقاطع موضع الجدل على أي حال، تزيد الفيلم غرابة وقوة وشجنًا وآلمًا، وملائمة جدًا لقصة عن مارلين مونرو، التي لا تسيطر على أي شيء في حياتها منذ ميلادها.
ومنسجمة أيضًا مع فيلم يقدمها كضحية لغياب الأب، لدرجة تسعى معها البطلة للبحث عنه طوال الوقت، ولمحاولة تعويضه في صورة حبيب بديل (لاحظ في Blonde كيف تخاطب عشاقها وأزواجها).
كيوبيد لا يرحم | أنضج 10 أفلام عن تعقيدات العلاقات العاطفية | حاتم منصور
لكن كل ما سبق من مشاهد جريئة وأفكار درامية، كانت عناصر كافية لموجة صداع نسوي جديدة على تويتر، وحملة مزايدات أخلاقية ضد صناع الفيلم، تضمنت عشرات الإتهامات الغريبة مثل:
1- تقديم شخصية نسوية بمنظور ذكوري متحيز.
2- السماح لمخرج (ذكر) بتناول مسيرة فنانة (أنثى).
3- إهانة ذكرى فنانة مهمة وتقديمها كشخصية ضعيفة وهشة نفسيًا.
4- تقديم محتوى درامي مناهض لحرية الإجهاض.
5- تجريم النساء اللواتي يقمن بإجهاض.
المزعج أكثر أن هوجة المزايدات والهراء، التي بدأت على تويتر والمواقع اليسارية، انتقلت لاحقًا لمؤسسات مهمة مثل جمعية تنظيم الأسرة الأمريكية التي أصدرت بيانًا رسميًا يحتوي على نفس الإتهامات للفيلم.
كلها ملاحظات واعتراضات غريبة، لكنها متوائمة مع الأجندات النسوية المعاصرة في الغرب، التي تزداد سخافة ومللًا يومًا بعد يوم.
كيف أصبحت الأجندة النسوية المعاصرة في هوليوود منفرة؟ | حاتم منصور
لم يعترض أحد على رواية كانت حجر الأساس لكل ما شاهدناه في الفيلم، لأن مؤلفتها كانت أنثى. لكن مع ظهور Blonde وكون مخرجه ذكر، أصبح نفس المضمون فجأة مرفوضًا من شرطة الأخلاق النسوية!
لم يعترض أحد على فيلم مثل Elvis بدأ عرضه منذ أشهر، ويظهر فيه نجم الغناء ألفيس بريسلي كشخص ضعيف نفسيًا، يتلاعب به مدير أعماله ويستغله طوال الوقت، لكن أصبح نفس المضمون مهينًا فجأة، مع نجمة أنثى!
لم يعترض أحد على عشرات القصص والروايات والمقالات، التي تتناول آلام قرار الإجهاض ومشقته نفسيًا على الأم، لكن فجأة صار الفيلم موضع للهجوم، لأنه فقط صاغ كل ما سبق، بصورة فنية مؤثرة.
والغريب في الموقف، أن شرطة اليسار والفيمنست، لا تريد حتى أن يظهر أى ضعف بشري بخصوص قرار الإجهاض، وكأن الحيرة والتردد قبل تنفيذه، أو ما يمكن أن يعقبه من آلم أو ندم، مجرد خيالات من صناع الفيلم، لا يمكن أن تتواجد واقعيًا لدى أى أنثى، ولا يجوز أن تصبح ضمن نسيج رواية أو فيلم.
نظرة جريئة وصادمة للأمومة والإنجاب في Tully
يمكن هنا تخيل نظرات ذهول للمخرج أثناء قراءة هذه المهاترات النسوية! على الأغلب تخيل في البداية، أن فيلمه سيصبح محور اهتمام وتقدير منهن، باعتباره عمل يظهر البطلة في الصورة المفضلة دومًا في أجندات النسوية (ضحية لعالم ذكوري قاسٍ ابتداء من الأب والزوج حتى كل الرجال المحيطين).
لكننا في النهاية، نحيا في عالم تبحث فيه هذه الأقلام النسوية، عما يمكن أن تشكو منه وتلعنه، وليس عما يمكن أن تشيد به. وبدرجة ما، جاء فيلم شقراء – Blonde كعمل يلامس مستشعرات الآلم لدى المتفرج، قبل غيرها.
سنعرف في موسم الأوسكار، إلى أى مدى سيدفع Blonde ثمن هذه المزايدات، وهل ستكفي لاستبعاد آنا دي أرماس من قائمة المرشحات، أم أنها ستنال ترشيحًا على الأقل.
هذا بالإضافة لعناصر فنية أخرى، تستحق أيضًا أن توضع على رادار الأوسكار، على رأسها مجهودات مدير التصوير كايسى إيرفين، والموسيقى التصويرية المؤثرة للثنائي (وارن إليس – نيك كاف)، وطريقة توليف وتوظيف شريط الصوت عامة.
بيدوفيليا وازدراء أديان | سبع أعمال أثارت غضب ملايين ضد نتفليكس
في المقابل، أقصى شيء يمكن أن يحلم به المخرج أندرو دومينيك بعد فيلمه البديع المثير للجدل هنا، هو الحصول على فرصة لصناعة فيلم آخر مستقبلًا!
الرجل يحتاج الآن للكثير والكثير من الحظ، لينجو من مقاصل ثقافة الإلغاء، وأحكام الإعدام على يد النسويات واليساريين!
ثقافة الإلغاء | اليسار خارج السلطة يمارس هوايته في القمع | تعريفات في دقائق
والضحية الحقيقية – كالعادة – ليست صناع Blonde أو مخرجه أندرو دومينيك تحديدًا، بل هي ببساطة فن السينما، الذي تكبله هذه الجماعات بأغلال جديدة يوماً بعد يوم، تحت دعاوي الأخلاق والتحضر.